كتاب" موقفنا من الحضارة الغربية "

علي الطنطاوي

إن الحضارة المعاصرة قد خالطتنا وغلبت علينا شئنا أم أبينا وقد فاجأتنا مفاجأة أزاغت أبصارنا وأفقدتنا ملكة الحكم عليها فترة من الزمن انقضت الآن وصرنا نستطيع أن نحاكمها وأن نفرق بين خيرها وشرها فلا نرد خيراً لأنه جاء من عند غيرنا ولا نقبل شراً لأن أصحابه أكثر حضارة منا

كيف صرنا إلى هذه العزلة؟ العزلة عن العالم المتحضر وعن ثمرات حضارته؟ كيف تقدمنا من كان وراءنا؟ كيف سبقت الأمم وتأخرنا؟ وعلت وهبطنا؟

لقد كان مثلنا قبل ستين أو سبعين سنة مثل المسافر الذي كان على ذروة الجبل وكان الطريق ينحدر إلى واد عميق فلما بلغ الوادي هده التعب وأضناه النعاس فما عاد يذكر لما غلبه النوم الذروة التي هبط منها ولا الذروة المقابلة التي كان يقصدها وظن أن مكانه في هذا الوادي فسكن إليه واستقر فيه وقنع به ولم يعد يدري ما وراء الجبلين

الحضارات حضارات محلية لم تتجاوز بلدها ولم يمتد أثرها إلى غير أهلها كحضارة الصين القديمة وحضارة المكسيك وبيرو وحضارات عالمية اتصلت بغيرها وأعطتها وأخذت منها وإذا أردتم على المصور دائرة تجمع أعالي الجزيرة والعراق وأطراف فارس واليونان وروما ومصر والشام لرأيتم أن الحضارات العالمية قامت كلها وسط هذه الدائرة
ولرأيتم شيئاً آخر هو أنها ابتدأت في شرقي هذه الدائرة في مصر وساحل الشام والعراق ثم انتقلت إلى غربيها إلى يونان ومصر ثم عادت إلى الشرق الإسلامي ثم رحلت إلى الغرب
أي أن الحضارت العالمية كبناء من ثلاثة أدوار:

الدور الأول: دور الحضارات الأولى التي أقامها المصريون والبابليون والحثيون والفينيقيون ثم اليونانيون والرومانيون

والدور الثاني: الذي أقامه المسلمون من عرب وعجم وترك وغيرهم ممن شارك في إقامة الحضارة الإسلامية أو الحضارة العربية

والدور الثالث: دور الحضارة العصرية

لقد نصب أهل الدور الأول أصناماً من الحجر وأصناماً آلهة من البشر فعبدوهم

أما أهل الدور الثالث فقد استبدلوا بأصنام الحجر أصناماً من {عقائديات} باطلة ومبادئ متوهمة فهم من عبد المادة وما المادة؟ إنها شيء مصنوع ونسوا صانعها ومنهم من ألّه التاريخ وما التاريخ ؟ إنه تصوير ما كان وليس له {حتمية} توجه ما سوف يكون ومنهم من قدّس العلم، وما العلم؟ إنه كشف لما أودع الخالق من قوانين وسنن في هذا العالم المخلوق

أما الدور الثاني الذي أقمناه نحن فما نصبنا فيه أصناماً ولا ألّهنا فيه بشراً ولا عبدنا فيه من دون الله أحداً وما أغلقنا نوافذ بيوتنا دون ضياء الشمس ولا أوصدنا قلوبنا أمام نور الحق
فكانت حضارتنا للروح والنفس والعقل والجسد وكذلك تتفق الحضارات في المظاهر المادية كاتفاق الناس كلهم في تكون أجسادهم ولكن تختلف في روحها وجوهرها كاختلاف الناس في القيم والفضائل والأفكار
فإن كانت حضارة اليوم أعلى في البناء وأسبق في مجال المادة فلا شك أن حضارتنا كانت حضارة المادة والروح معاً

لقد استفدنا من الحضارت السابقة نعم ولكن أعطيناها من بعدنا أكثر مما أخذنا ممن قبلنا والحضارات والعلوم ملك مشاع للإنسانية كلها لا جنسية للعلم ولا للأدب ولا للحضارة وتعالوا ننظر ما الذي أخذناه؟ أخدنا مبادئ في العلوم الرياضية والطبيعية والطبية استفدنا منها ولكن زدنا عليها وكان الذي زدناه أكثر من الذي استفدناه

وأخذنا أشياء ضرتنا ولم تنفعنا كالعادات الفارسية المخالفة في جملتها للسلائق والفضائل العربية
ثم حدثت مجريات {هي واردة في الكتاب ولكنني اختصرتها لئلا أطيل وللتركيز على ما تشوقت إليه وأنا أقرأ، ولكن إن رغبتم فقط ائمروني وسأكون مطيعة إن شاء الله وأكتبها لكم}
وتقدم العالم ونحن واقفون في مكاننا وسلك ركب القوم الطرق الجديدة المفيدة وبقينا نحن على طريقنا مغترين بما عندنا نحسب أن الدنيا لا تزال كما كانت أيام الحروب الصليبية وأن علومنا وجهالتهم لا تزال كما هي

ونحن أصبحنا يوماً فإذا الحرب العامة تنقضي وإذا السد الذي كان بيننا وبين الغربيين يسقط وإذا هذه الحضارة تدخل علينا فجأة

إن الذي يخرج من الغرفة المظلمة إلى نور الشمس أو العكس تمر عليه لحظات يزيغ فيها بصره وكذلك كنا في عام 1918م
ونحن الآن واليوم زالت عنا روعة المفاجأة وذهبت تلك الهيبة لهم من نفوسنا ووجب علينا أن نأخذ ........فما الذي نأخذه وما الذي نتركه؟
إن المنقب عن المعادن يجد الحجر لا يدري مما يتألف فيأخذه إلى المختبر للتحليل ويرده إلى عناصره الأصلية
فإذا أردنا أن يكون حكمنا على هذه الحضارة الغربية صحيحاً فلنردها إلى عناصرها التي تتألف منها

العنصر العقائدي: وهو مرفوض جملة وتفصيلاً

العنصر الفكري:فنقبسه كله العنصر المشتمل على العلوم النظرية والعملية ويمكن أن نتخذ منه الاصطلاح الجديد ، ولكنني أشترط لذلك شروطاً:
1. حين نتعلم القانون الطبيعي أو نعلمه لتلاميذنا أو نستفيد منه تطبيقاً أن نذكر من وضعه وهو الله رب العالمين فتكون هذه العلوم دالة على الله مثبتة للإيمان به.{حاضر سيدي!{
2. أن نذكر حين ندرس هذه القوانين مقرونة بأسماء العلماء مثل قانون نيوتن مثلاً
على أنهم ما أوجدوا مفقوداً ولكن أظهروا موجوداً
3. أن نفرق بين القانون الثابت الذي وضعها الله وجعله سنة من سننه في الكون ما له من تبديل ولا تحويل وبين النظرية وهي افتراض يفرضه العالم
4. أن نعلم إن الإسلام لا يمكن أن يكون فيه نص قطعي ينافي ويناقض الثابت في العلم الثبوت القطعي

العنصر الاجتماعي
أما ما يتصل بتخطيط المدن وتمديد الشوارع وترتيب الحدائق ونظافة البلد وتوفير المرافق و..الخ فهذا نأخذه، ولكن لا لمحض التقليد لهم والاقتباس منهم بل لأنه من قواعد ديننا وكان من ركائز حضارتنا
وضبط المواعيد وصدق القول ...الخ فإن الإسلام لا يتساهل فيها أبداً
وأما ما يتعلق بالمرأة مثلاً فلا

{{سنربهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق}}
ذلك الفضل من الله....

أرجو أن نأخذ جميعاً كل ما نقرأ بمحمل الجد والعملية أي أن نسارع في تطبيقه
فهذا هو الحل وهذه هي المهمة

» كتاب لا تحزن ...............
» كتاب حب الرسول من الإيمان
» مشكلة التفكير السلبي و أثره على المحتمع وحركة الحضارة