صنم الواقع...الصورة اليائسة !
علا باوزير
_________________________
تحدثنا سابقاً عن صنم التاريخ وهو جزء من الزمن ,هناك صنمٌ خفيٌّ آخر يقبع في آلة الزمن أيضاً يبذل كل ما في وسعه لكبح جماح آلة الزمن وتحويلها إلى آلةٍ صمّاء لا تعدو أن تكون قطعةً ثمينة نغلق عليها قولنا وقلوبنا ,صنمٌ عابده يحاول رسم صورةٍ جميلةٍ لواقعٍ هزيل تارةً ,وتارةً أخرى يحاول رسم وجهٍ عابس لسجينٍ يسكن خلف القضبان.
صنم الواقع صنمٌ خطير يندسّ في أدمغتنا الحية ليميت إحساسها بالحياة المستمرّة والمتجدّدة ,كمن يقف في وسط العاصفة يظنّ أنها ستقف عندما تراه ..ولكن هيهات لها أن تقف وهيهات له أن يصمد ..
يعمل صنم الواقع على برمجة العقل على ألاّ يرى من الواقع سوى الإيجابي والجميل ,وهذا شيء رائع يدعو إلى التفاؤل ,ولكن أن تمنعنا زخارف التحفة الفنية الرائعة عن رؤية الشرخ الذي يقسمها نصفين فهذا ما لا نرتضيه،
إنه لا يرى من واقعه سوى ما يريده فقط متناسياً وغافلاً عن الأمراض والأوبئة الكامنة في قلب الأحداث، والتي تجعل واقعه يزداد سوءاً وانهياراً وفناءاً ,والإتجاه نحو مستقبلٍ أكثر غموضاً وموتاً وانحساراً.
نه صنمٌ غريب يوهمك بالحياة والإستمرار فيها بينما أنت في الحقيقة تموت دون أن تشعر، صنمٌ يعبده الأفراد والمؤسسات هرباً من رؤية الحقيقة .أراه ماثلاً أمامهم ينسّقونه ويلوِّنونه ,بينما هو يحتضر بين أيديهم ، وهل يشفى مريض القلب أو السرطان بارتدائه ثوباً جديداً!؟
الواقع من الأصنام التي عرفتها البشرية منذ نشأتها ,منذ أن خلق الله آدم وحوّاء ,ألم ترى قابيل كيف قتل أخاه هابيل ؟
لقد قتل أخاه بدلاً من أن يغيّر في ذاته وفي سلوكيّاته ويختار من صدقاته أحسنها، لقد هرب من واقعه السيء إلى واقعٍ أسوأ !
(فطوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين)...نعم لقد خسر من لا يرى واقعه كما يجب يخسر حاضره ومستقبله.
ولصنم الواقع وجهٌ آخر أيضاً يمنعك من رؤية نور المصباح الخافت الذي يضيء حولك ,لترى السواد قد عمّ المكان فتجلس في مكانك منتظراً بزوغ الشمس التي لن يراها بسب العمى الذي أصابه،
إنه اليأس الذي يحاصر العقول ويقتل خلاياها ,فصنم الواقع هذه المرة لن يريك منه سوى السلبيات وكل ماهو سيء ,فلا ترى جمال زخارف التحفة ولا ترى أجزاءها ,بل لن تراها كلّيةً.
وفي كلتا الحالتين ستمتنع عن رؤية الحق ونقد الواقع ومعرفة إيجابيّاته التي تزرع في نفسك التفاؤل ,ومعرفة سلبيّاته التي تدفع بعقلك وجوارحك لاستغلال الإمكانيات وخلق الممكنات نحو الحركة والتفاعل مع الحياة لإصلاحها وتغييرها للأفضل.
أما وأن تبقى مبتسماً للواقع وكأن كل ما فيه جميل مصرّاً على مواجهته بذات الطريقة والأسلوب ,أو أن تبكي هذا الواقع وتنوح عند فاته ,فهذا فعل الراكعين الخانعين لصنمٍ نحن نملكه ,ولكنها ملكنا.
حاول مرةً أخرى إنزع الغمامة عن عينيك وانظر إلى الواقع كما هو ,إحمل التحفة بين يديك إجمع أجزاءها ضمّها إلى بعضها البعض نسّقها غيّر رتيبها استبدل بعض أجزاءها بأخرى ,إجعلها تقف من جديد ثم اشرع في زخرفتها بفرشاتك الملوّنة ..فالواقع لا يعني شيئاً بدون عقولنا ,فحرّر عقلك من حصار هذا الصنم ثم انطلق.