صنم الذات
علا باوزير
---------------------------
إنه صنمٌ خفيٌ آخر يقبع بين جنبات النفس ,يتنفس معها ويشاركها طعامها وشرابها ويقاسمها عقلها وتفكيرها حتى ليبدو الشخص الذي يعبد ذاته نسخةً منها. هذا الصنم من شدة إلتصاقه بالإنسان لا يشعر بوجوده ولا يتمكّن من رؤيته إلّا من حرص على يقظة عقله وفكره , وحرص على الوقوف أمام مرآةٍ صافية ومصقولة كل يومٍ ليراه على حقيقته.
عندما تصل إلى مرحلة لا تتمكن فيها من رؤية عيبوك الشخصية أو عيوب أفكارك ورغبتك الدائمة في فرض آراءك على الآخرين ,فيجب عليك أن تدرك مباشرةً أنك وقعت في المحظور، وأنك أصبحت تعبد صنم يدعى الذات.
لقد عبد هذا الصنم فرعون ,وعبده من قبله النمرود ,وقوم نوح وجميع أولئك الذي استكبروا عن عبادة الله وحدهم غروراً ,وتكبّراً عن التنازل عما ورثوه من تاريخ آبائهم وما تربوا عليه ,وإن علموا بفساده ...فأنفسهم وذواتهم كانت أعزّ عليهم من الله ومن رؤية الحقّ، فأصروا على عبادتها حتى أذلّهم الله بعذابٍ نسمع فيه أصداء صرخاتهم تتردد إلى اليوم ...ومع رحيلهم لم ترحل ذواتٌ كثيرة، بل ظلّت متطاولة في قلوب الكثيرين .
يظهر صنم الذات في كره الإنسان لرؤية الحقيقة وإن كانت واضحة مثل قرص الشمس، فلا يريد أن يفرق بين الخير والشر وبين الحق والباطل ,ويظهر أيضاً في عدم تقبّل آراء الآخرين، أو حتى سماعها لأن صنمه يقنعه دائماً بأن ما لديه خيرٌ مما لدى الآخرين بل وهو الحق المطلق الذي لا ينازعه فيه رأيٌ آخر أو شخصٌ آخر ,كما نراه أيضاً في كره الإنسان للنقد لأن ذاته تريه نفسه بلا عيوب تريه نفسه منزّهاً عن كل خطئٍ وخطل فهو الكامل والمثالي الذي لا ينقصه شيء ولا أحدٌ يشبهه.
وأكثر ما يتواجد أثناء الحوار والمناقشات وعند وقوع المشكلات ,فصنم الذات لا يحب المساءلة أو كثرة الجدال لأنها تكشف عن نقصه وعواره ,فيتهرّب من كل ذلك بالصراخ والغضب والهروب أو إخراج حجج واهية تؤكد على قصوره وضعفه.
وأكثر من يعبده أصحاب العلم! فالعلم شكل من أشكال عبادة الذات ,وأصحاب المال والغنى ,وأصحاب الحكم والسلطة، وفي ذلك يقول تعالى على لسان فرعون حين عبد ذاته وفرضها وتسلّط بها على الناس : (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) وأولئك الذين استحوذت عليهم ذواتهم حتى ما عادوا يروا شيئاً خارج حدودها. والذات قد تعبدها الدول والجماعات والطوائف والعرقيات والمؤسسات !
لا تفرّ من ذاتك بل واجهها تأملها جيدا وكاشفها ,عريها أمام عيوبها ومحاسنها وأعد ترتيبها من جديد هي ضعيفة ,فقط تحتاج منك المبادرة لأن تمسك بزمامها قبل أن تمسك بك ,لتمسك أنت بها وتذيب جليدها أمام شعاع الشمس ,وتقول لها هاهي الحقيقة ,فالحقيقة مرّة كمرارة العلقم على لسان عبّاد الذات ,أما من تبرّأ من عبادتها وغسل ثوبه من درنها فإنه يرى للحقيقة نكهة كنكهة الربيع.
والرأي الذي تكوّنه ذاتك ليس نهاية المطاف ,فقد ترى لدى ذات أخرى ما هو أفضل ,وقد ترى أنت بعد حين رأي آخر فقط حين تتحرر منها، لأنك لو قدست رأيك الأول فلن تستطيع تكوين رأيٍ آخر ولو بعد حين ,حينها سيتحجّر عقلك وفكرك ,فلا تدفن عقلك في التراب قبل أن ينضج ,وكن على ثقة بأنه لن ينضج لأن طبيعته النقص ,والكمال المطلق لواهبك إياه .
وإذا كنت صاحب سلطة أو علم أو مال فتأكد أن ذاتك ليست التي أوصلتك إلى هنا ,بل خالقها هو الذي أوصلك ,فاحرص على أن تحمل معك سراج الحقيقة كل حين لتصلح بسلطتك وعلمك ومالك ما فسد ,لا أن تطفئ القناديل في الأماكن المضاءة حتى لا تجعل نفسك ترى ذاتها ، فلا شيء يعمي صنم الذات كرؤيته لشعاع الشمس، فلا تبخل على نفسك بوقفةٍ أمام شروقها .
من ذا الذي لا يحب ذاته ,نعم نحن نحبها ...! ولكن دون أن نجعلها تستولي علينا حتى نظلم بها أنفسنا ونظلم بها الآخرين ,ونفسد في الحياة باسمها ,متناسين أن هناك ذواتاً أخرى لها أنفسٌ تحبها مثل أنفسنا ,ولكنها كانت تعرف كيف تحب ذاتها ..فتدلّها على صراط الحق وتبعدها عن الباطل وأزقته الضيّقة ,فتقود ذاتها قبل أن تقودها ..!
لا تنسى أن صنم التاريخ يمكن أن يُعبد من خلال الذات ,فالذات تتكبّر وتغتر به ظناً منها أنها تملكه وأنه يمثّلها فلا تتمكّن من تركه أو رؤية عيوبه ,ليصبح الصنم صنمين !