" بين التنظير والعمل – 2 "
د. عبد الكريم البكار
------------------------------------------
منذ حوالي قرن من الزمان بدأت أسئلة النهضة تتفاعل بين الأوساط الفكرية الإسلامية , ونتيجة لذلك فقد نتجت مئات الأفكار والرؤى المختلفة , حيث ألفت الكتب وعقدت الندوات والمؤتمرات وأقيمت المحاضرات في عدد من الدول لإسلامية ساعية إلى التنظير لنهضة الأمة وحضارتها .
إلا أن بعض هذه الجهود تحتاج إلى ترشيد نحو العمل والتطبيق بدلا من بقائها أفكارا صامتة في صفحات الكتب وأوراق عمل المؤتمرات .
حيث لابد من إيجاد منهج تطبيقي عند البدء في التنظير , ذلك المنهج الذي يعبر عنه الدكتور يحيى نعيم بقوله : " هو أن يكون ما نُنظّر له قابلاً للتطبيق والتنفيذ ،إذ أنه لا جدوى من طرح أفكار لا تغادر الوريقات التي خُطت عليها إلي أرض الواقع فتغيره وتنهض به , فحال كهذا تشبه فيه النظرية وما احتوته من أفكار جسداً مصروعاً بالعقل أو بأرفف المكتبات , ويبقى التطبيق وتحويل هذه الأفكار لواقع معيش بمثابة روح النظرية وقلبها النابض بالحياة.
لذا وجب علي من يخوض في غمار مراعاة هذه المنهجية في البحث والتنظير , كي لا نجد أنفسنا أمام كم هائل من الأفكار التي قد تبدو مجدية بين طيات الكتب فإذا ما حاول البعض تطبيقها استعصت عليه ،فخلّفت إحباطاً أو يأساً من تكرار المحاولة في ظل أحوال تهيب بكل العاملين في ميدان النهضة بعث الأمل وتعظيمه في النفوس".
ومما يُلاحظ على بعض المفكرين ولعهم الشديد بمحاولة تعقيد أفكارهم ظنَّاً منهم أن ذلك يعطي لها لمعاناً وجاذبية , فتجدهم يختارون لها الـألفاظ الصعبة والجمل غير المفهومة بل والغامضة أحيانا , وهذا في الحقيقة يعد ترفاً فكرياً قد لا يكون له تأثير في واقع الأمة . كما يُلاحظ أيضا أن هنالك من يطرح رؤى وأفكار ثم لا يسعى لنشرها بشكل واسع وهذا قد يتسبب في قلة المتحمسين لتلك الأفكار وبالتالي فقد لا تجد طريقها للتطبيق .وكما هو الحال في كثير من قضايا حياتنا , فإن من الطبيعي أن نجد آراء مختلفة , فكما أن هنالك من يقدس التنظير هنالك أيضا من يحتقره ويراه من الأمور المضيِّعة للوقت في زمن كثرت فيه المتغيرات المتسارعة ،لكن حينما نتأمل في أي عمل – مهما كان حجمه – فإننا سنجد أنه يحتاج منا إلى التنظير , ذلك التنظير المتمثل حتى في نقاشنا الموجز له ولنتيجته .
يقول الكاتب ماجد الحمدان : " عندما يمارس الإنسان حياته اليومية فهو يضع الكثير من التنظير، يبدأ هذا التنظير باستيقاظه من النوم، فهو يحدد في لا وعيه خطة كاملة للخروج، تبدأ من إشعال الإضاءة إلى دورة المياه للاغتسال ثم الذهاب إلى المطبخ للإفطار ثم الخروج لقيادة العربة إلى العمل.
هذا التخطيط اللاواعي معروف لأنه مكرر، ولكن ماذا سنفعل عندما لا نملك خطة معروفة مسبقاً ونحن نرغب في النجاح في هذا المشروع، كالرغبة في إنشاء مشروع تجاري جديد.
ما سنفعله هو أننا سننتقل من التنظير العفوي أو اللاواعي إلى التنظير المقصود أو الواعي، وبالتالي عندما نرغب في النجاح في مشروع تجاري على سبيل المثال يجب أن نضع له دراسة جدوى كاملة، أما عدم إعطائه هذه الدراسة، فهذا يعني أننا سنقوم بمشروع عفوي، مآله غالبا الفشل إلا في حالات نادرة ينجح فيها بالحظ، إضافة إلى ذلك هو أن ذلك المشروع العفوي سيكون رهناً لأي ظروف طارئة ستجعله تحت رحمة أي تحد أو معطيات لم تطرأ على ذهن صاحب المشروع، فضلا عن ذلك أن عدم التنظير يفقد صاحب المشروع أي فرصة في استغلال فرص جديدة وفي استمرار البقاء " .
وهنا يتسائل الحمدان : " ماذا لو كان التنظير يتعلق بمشروع دولة لا بمشروع فردي؟ " .
فيجيب : " هنا ستصبح الحاجة للتنظير أكبر وأعقد وأعظم، فحدوث الفشل قد يكون في إدارة مئات الشركات الكبرى، وآلاف الشركات الصغرى والمؤسسات التجارية.
وافتقاد التنظير في هذه الحالة، هو فشل مؤكد لتلك المشاريع العفوية، إن لم يتوفر لها التنظير الفاعل والمدروس والذي يهدف إلى التطبيق دون عوائق وقيود، وهذا هو دور الفلاسفة والمفكرين في كل التخصصات الإنسانية.
توصلنا أيضا إلى نتيجة أخرى، وهي أن العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع والنفس وعلاقتهما بالإدارة، وغيرها من علوم إنسانية هي أهم من كل التخصصات الأخرى، لأنها هي منبع الأفكار، علما أن الرياضيات والإحصاء ليست إلا جزء لا يتجزأ من العلوم الإنسانية، إنه الانتقال من السلطات الثلاثة، التشريعية القائمة على التنظير إلى التنفيذية القائمة على العمل، إلى القضائية القائمة على التصحيح، فإن رأيت كاتباً مهمته التنظير وتدوين المقالات تلو المقالات، فاعلم أن دوره أهم ممن يعمل دون تخطيط مسبق، لأنه هو من يوجه التنفيذيين، وهو من يصحح أخطائهم، ولو كنا نسمع للمنظرين ونعطيهم حرية أكبر في التنظير، لكنا في حال أفضل ".