شخصية الرسول القيادية
دراسة تحليلية مختصرة
الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وسلم ومن والاه، أما بعد:
يجد الناظر في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم جانبين لهذه الشخصية هما:
الأول: الجانب النبوي بوصفه صلى الله عليه وسلم رسولاً مبلغاً مسدداً بالوحي من الله تعالى، وليس هذا الجانب هو المقصودَ من هذه الدراسة.
الثاني: الجانب البشري الإنساني، وهذا الجانب متشعب، ويهمني منه الجانب القيادي في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتمثل هذا في النقاط التالية:
1. الإرادة والهمة والعزيمة: تعد هذه النقطة واضحة تماماً في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان ذا تصميم عجيب على إنفاذ ما يريد، لا يتردد في ذلك، ولا يضعف، كما في بعثه أسامة بن زيد لغزو الروم وهو في مرض موته، وكما ظهر هذا في تصميمه على الدعوة رغم الأذى، وفي تصميمه على حفر الخندق رغم العناء الكبير، ومن المعلوم أن الإرادة الصلبة والهمة العالية والعزيمة القوية هي الدوافع الرئيسة للعمل حتى تتحقق الأهداف التي يرنو المسلم إليها، فالقائد الذي لا يملك هذه الأمور لا ولن ينجح في حياته، ولن يحقق من أهدافه شيئاً.
2. الصبر وسعة الصدر والقدرة على التحمل: قال الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لأبي عبيد سليط بن قيس الأنصاري: ” لولا أنك رجل عَجِل في الحرب لولّيتك هذا الجيش، والحرب لا يصلح لها إلا الرجل المكيث ” أي الصبور، كما أن الناظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يطّلع على مدى ما تحمله هو وأصحابه من أذى المشركين، ويدرك مقدار حِلْمه صلى الله عليه وسلم على قومه، فقد كان واسع الصدر يقابل جهلهم بالدعاء لهم بالهداية؛ لأن قومه لا يعلمون، وهذه النواحي من أسس العمل الناجح، ومن المواصفات الضرورية اللازمة للقائد الناجح، فمن فقدها لم ولن يحقق شيئاً مما يصبو إليه.
3. الشعور بالمسئولية والقدرة على تحملها: ومن هذا الباب جاء قوله صلى الله عليه وسلم: ” كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته… ” الحديث، وهذا الشعور كان من الدوافع الحقيقية الهامة للنبي صلى الله عليه وسلم ليتخذ لكل شيء في حياته خطوات علمية مدروسة مبرمجة، فراح يبحث عن مكان آمن يرسل إليه أصحابه؛ حفاظاً على الطاقات الإسلامية من الإهدار والضياع، ويظهر هذا جلياً واضحاً في سيرته صلى الله عليه وسلم من أول يوم بعث فيه لما قال له ورقة بن نوفل: ” ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك… ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي ” فجعل صلى الله عليه وسلم يوطّن نفسه ويعدّ أصحابه لذلك.
4. الرؤية الاستراتيجية البعيدة: لقد كان إخبار ورقة له صلى الله عليه وسلم بأن قومه سيخرجونه وسيعادونه باعثاً له على التخطيط المحكم والإعداد الكافي، فظهرت عبقرية النبي صلى الله عليه وسلم في التخطيط الواضح غير المكتوب في حياته لكل أمر ذي بال، والمقصود من إبراز التخطيط النبوي ذكر بعض معالمه، وليس استيعاب مظاهره، ومن مظاهر هذا التخطيط:
· تقسيم الدعوة الإسلامية إلى مرحلتين؛ الأولى منهما هي مرحلة الدعوة السرية والتنظيم السري مدة ثلاث سنين، يدعو ويربي ويعلم القرآن الكريم وتوجيهاته بعيداً عن أعين المشركين؛ لأنه يعلم أنهم لن يسلموا له بما يريد، والثانية كانت مرحلة الجهر بالدعوة والإعلان عنها مع الإبقاء على سيرة التنظيم؛ لتفادي الضربات المفاجئة، والمباغتة العدوانية.
· جمع المعلومات عمن يريد أن يدعوهم إلى الإسلام، بمعنى: ( الخضوع لتقويم أمني كامل )؛ لتفادي الاختراق لصفوف المسلمين من الداخل.
· البحث المتواصل عن أماكن آمنة للدعوة الإسلامية ولأتباعها كما في عرض نفسه على القبائل بقوله: ” من يؤويني، من ينصرني، ألا رجل يحملني إلى قومه حتى أبلغ رسالة ربي؛ فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي ” وكما في سؤاله لبعض الحجيج: ” هل عند قومك من منعة؟”، وكإرسال الصحابة الكرام إلى الحبشة في هجرتين متتاليتين، ثم في الهجرة إلى الطائف، ثم إلى المدينة، وكأمره لبعض الصحابة المسلمين أن يرجعوا إلى أقوامهم وأن لا يبقوا في مكة، فلا يحسن تكديس الأتباع حيث توجد المحنة.
· السبق إلى أرض المعركة، وتفقد الأماكن؛ لاختيار المناسب منها ليرابط الجنود فيه، وترك ما لا يناسب للعدو؛ ليضمن النبي صلى الله عليه وسلم السيطرة على الأرض؛ تعويضاً لقلة الإمكانات، وظهر هذا واضحاً في غزوتي بدرٍ وأُحُدٍ.
· القدرة على إرباك العدو وإفشال خططه، بواسطة المفاجآت العدوانية كأسلوب الصف، وأوامر استخدام السلاح في بدر، وحفر الخندق في الأحزاب.
· القدرة على إشغال العدو بنفسه، وتفسيخ صفوفه، كما فعل نعيم بن مسعود يوم الأحزاب، وكإرسال حذيفة بن اليمان لاستطلاع أخبار القوم في الغزوة نفسها؛ مما جعل أبا سفيان ينادي في الناس أن يتعرف كل واحد إلى من حوله، فأحدث هذا خلخلة في الصف الوثني.
· ملاحقة العدوّ لإرعابه، وإدخال الخوف في قلبه؛ ليفر من الميدان، كما في غزوة حمراء الأسد، وكما في السرايا والبعوث الكثيرة؛ لتأديب القبائل في منازلها، فلم يكد يمرّ شهر في الفترة المدنية إلا ويرسل صلى الله عليه وسلم سرية، أو يغزو غزوة؛ لتأمين المسلمين في المدينة من خلال النشاط العسكري المتواصل.
· اختيار الزمان المناسب، والمكان المناسب، والأشخاص ذوي القدرات العالية على تنفيذ المهام، كما في بيعة العقبة الثانية، ثم في الهجرة.
في باقي أنا شاء الله بكتبهم