نعمــة الألــم.../ د. عائض القرني
الألم ليس مذموما دائما , ولا مكروها أبدا , فقد يكون خيرا للعبد أن يتألم .
إن الدعاء الحار يأتي مع الألم , والتسبيح الصادق يصاحب الألم , وتألم الطالب زمن التحصيل وحمله لأعباء الطلب يثمر عالما جهبذا , لأنه احترق في البداية فأشرق في النهاية , وتألم الشاعر ومعاناته لما يقول تنتج أدبا مؤثرا خلابا , لأنه أنقدح مع الألم من القلب والعصب والدم فهز المشاعر وحرك الأفئدة , ومعاناة الكاتب تخرج نتاجا حيا جذابا يمور بالعبر والصور والذكريات.
إن الطالب الذي عاش حياة الدعة والراحة ولم تلذعه الأزمات , ولم تكوه الملمات , إن هذا الطالب يبقى كسولا مترهلا فاترا.
وإن الشاعر الذي ما عرف الألم ولا ذاق المر وتجرع الغصص , تبقى قصائده ركاما من رخيص الحديث, وكتلا من زبد القول , لأن قصائده خرجت من لسانه ولم تخرج من وجدانه , وتلفظ بها فهمه ولم يعشها قلبه وجوانحه.
وأسمى من هذه الأمثلة وأرفع : حياة المؤمنين الأولين الذين عاشوا فجر الرسالة ومولد الملة , وبداية البعث , فإنهم أعظم إيمانا , وأبر قلبا , وأصدق لهجة , وأعمق علما , لأنهم عاشوا الألم والمعاناة : ألم الجوع والفقر والتشريد , والأذى والطرد والإبعاد , وفراق المألوفات , وهجر المرغوبات , وألم الجراوح , والقتل والتعذيب , فكانوا بحق الصفوة الصافية , والثلة المجتباة , آيات في الطهر , وأعلاما في النبل , ورموزا في التضحية , (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا في كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين).
إذن فلا تجزع من الألم , ولا تخف من المعاناة , فربما كانت قوة لك ومتاعا إلى حين , فإنك إن تعش مشبوب الفؤاد , محروق الجوى , ملذوع النفس , أرق وأصفى من أنتعيش بارد المشاعر , فاتر الهمة , خامد (ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين).