رؤية معظم الشباب الحالي للحضارة والتطور-مع الأسف-

ما معنى ما نراه اليوم ونسمعه من مصطلحات التطور والتحضر التي
يعليها أبناء هذا الجيل وبناته فيطالبون بها ويعدونها حقاً مكتسباً على
المجتمع تأمينها لهم ليكونوا قادرين على مواكبة التطور العالمي من حولهم….
حتى إذا اقتربنا من أحدهم لنستفهم عن معايير هذا التطور وصفاته بيَّن لنا
أنها جملة شعائر – تحضرية – يجب على الشاب أو الشابة استيفاؤها كي يبقى في
ركب المتحضرين….

وهذه الشعائر تبدأ منذ الصباح باحتساء (ماغ) النسكافيه ثم ارتداء الملابس
المكونة من الجينز الضيق والضيق جداً والأفضل إن كان بلا خصر… مع تيشرت
مناسب يُبدي من الشاب مواطن الرجولة ومن الشابة مواطن الأنوثة…. مع
الاهتمام بتزويد كل شعرة من الرأس بحاجتها اليومية من (الجل) لضمان بقائها
واقفة على الجهة التي تم توجيهها إليها خشية أن يبدو الشعر – لا سمح الله –
أحادي التوجه أو لا يقبل الوجه الآخر…. (ولا ما نع بالنسبة للفتاة من
حجاب حضاري –تطوري- يزين الرأس ويضفي على صاحبته تصنيفاً معيناً) وعند
الخروج من المنزل لا بد من وضع سماعة الـ mb4، وحمل الموبايل باليد، وحمل
الحقيبة على الظهر… مع النظارة الشمسية… وعندما الالتقاء بالأصدقاء لا بد
أن تكون لغة الخطاب خاصة (عنكليزية) مع بعض المصطلحات الشبابية، والأفضل أن
يكون اللقاء في (الكافيه)، وإن كانت هذه (الكافية) عبارة عن طاولات مصفوفة
على الرصيف على قارعة الطريق وبين دخان السيارات… المهم أنها في منطقة
مخملية سكانها مخمليون (من الخمول)، أما بقية مظاهر التطور فتتمثل في
ممارسات اليوم المختلفة بدءاً من تناول الوجبات السريعة (الفاست فود) إلى
الاجتماع بالشلة ولا سيما (الأنتيم) لبثّه المشاعر وممارسة الحرية الشخصية
فيما يتعلق بالحاجات الفطرية الإنسانية… حتى إذا أرخى الليل سدوله ارتمى
فتانا المتطور أو فتاتنا المتطورة في أحضان الإنترنت من موقع إلى موقع ومن
(تشات) إلى (تشات)، أو في أحضان هوليود من فيلم إلى فيلم دون أن يشكِّل
المنزل أو العائلة بالنسبة له أي معنى غير أنه الفندق الذي يلبي له
احتياجاته الصحية… ولا مانع مع كل هذه الشعائر التطورية من ممارسات شرقية
تعبدية كأداء بعض الفرائض آخر اليوم مثلاً أو صيام رمضان بما أنه ممتع
ويكسر الروتين بعاداته الفلكلورية –برأيهم-

جيل له منظومته الفكرية والنفسية والسلوكية… وهذا الجيل موجود فعلاً نراه
كل يوم ربما كان من أبنائنا وبناتنا من إخواننا وأخواتنا… -ربما كان منا
وفينا-…

ولكن السؤال الآن هل ملامح التطور التي يعبر بها هذا الجيل هي التطور
الحقيقي الذي يرقى بأمتنا؟!! وما العوامل التي أدت على نشوء هكذا جيل لا
شرقي ولا غربي؟!!

جميعنا يعلم أن أمتنا تعرضت على مر العصور – وما زالت تتعرض– إلى قوى طمعت
في احتلالها، فغزتها تريد السيطرة عليها، فتارة تحت مسمى الاحتلال، وتارة
الانتداب، وتارة على شكل قوى دولية متعددة الجنسيات، وأخرى لمكافحة
الإرهاب…. ومن سايكس بيكو إلى الشرق الأوسط الجديد والكبير… ولا نعلم ماذا
يزيدون؟ أشكال ومسميات توالت وما زالت تتوالى ولكنها لمضمون واحد وهو:
إلغاء وجودنا، ونهب خيراتنا، وطمس هويتنا، وجعلنا تابعين أمناء ندفع وندفع
ونحن ساكتون… على أن يتم القبض بأقل التكاليف وطالما أن الحرب والاحتلال
باهظ التكاليف، فالحل يكمن في امتلاك الأمة وتنويمها مغناطيسياً، وسلب
إرادتها لتكون ظلاً لها في المواقف والمبادئ من جهة، ولتقدِّم كل ما تملكه
أرضها من خيرات على أطباق من ذهب من جهة أخرى، على أن يكون معدّو هذه
الأطباق من أبناء هذه الأمة نفسها، وهذا لن يتحقق لها إلا بأمر واحد إنما
هو السيطرة على عقول أبنائها فإن تم لهم ذلك كانت كل أشكال السيطرة ممكنة.

وباختصار أيهما أسهل أن يدخل اللص بيتاً فيقتل أهله ويسرق مالهم ثم يعيش في
بيتهم، أو يبقى في بيته وهم يحضرون له كل شهر خراجهم، فيكونون له خداماً
يطيعون أمره حتى يغدو حلمهم الأكبر أن يرضى عنهم وما أسعدهم إن صاروا
مثله؟؟!!

وهكذا أصبح لسان حال القوى المعادية يقول: بما أن المجتمعات العربية باقية
ولا مجال لفنائها أو دحرها والقضاء عليها فلتبق كما هي، وما علينا فعله
أمران:

- الأول: تفريغ كل المبادئ والمعتقدات التي نشأت عليها هذه الأمة من
محتواها وجعلها معاني لمصطلحات منفرة قديمة بالية…

- الثاني: إضافة مدلولات ومعانٍ تخدم أهدافنا لمصطلحات أخرى براقة تتأصل في
نفوسهم ثم تسري بينهم كما تسري النار في الهشيم…

وبهذا أصبح الجهاد والدفاع عن الحقوق إرهاباً، والالتزام بالشعائر الدينية
تراثاً وفلكلوراً، وأصبح التقيد بما أمر الله تعالى والسير على نهجه
وشريعته رجعية وتخلفاً، وتقليد الغرب بعُريه وفساد علاقات أُسره حضارةً
ومدنيةً، وتطبيع العلاقات مع عدونا انفتاحاً وتقبُّلاً للآخر، وتغيير
مبادئنا وتقمُّص فكر عدونا تنويراًً وتجديداً، والاحتلال والاعتداء على
الحريات ديمقراطية….

وغيرها من المصطلحات والتسميات التي هي في حقيقتها وسائل غزو، ولكنها لا
تمتُّ للنار والبارود بصلة… بل تسري في العقول وتعشش في النفوس حتى إذا
أثمرت قدمت للأمة أجيالاً ممسوخة مشوهة ضائعة لا تعرف من هي ولا أين تقف
ولا ماذا تريد… أجيالاً تخجل بتاريخها وتتذمر من تعاليم دينها وتتطلع
للخروج من جلدها وتغيير لونها… أجيالاً تجد في التسوق سعادتها… ومع الشلة
استقرارها… وعلى النت ابتهاجها…. وفي الكافيه هدوءها وأمنها…

أجيالاً هي حصيلة غزو فكري ونفسي تعرضنا ونتعرض له والمفجع في الأمر أن
جنود هذا الغزو أحد فريقين: سُذَّجٌ من أبناء أمتنا لم يعرفوا حقيقته
فخدعوا بأفكاره ومصطلحاته وتبنوها وقاموا يؤسسون لأصحابها أركاناً ودعامات
في مجتمعاتنا، أو ثلة من أبناء أمتنا ممن أعمت عيونهم أوراق النقود الخضراء
فعبؤوا منها جيوبهم وأرصدتهم ولا تزال حناجرهم تصيح: هل من مزيد..

واليوم مع اقتراب ذكرى عيد الجلاء أوجه دعوة لأن يكون احتفالنا هذا العام
مختلفاً احتفالاً يتمثل في وقفتين: وقفة إجلال وإكبار لدماءٍ منحتنا
الحرية، ووقفة حساب ومراجعة لأنفسنا فيما نعززه في أبنائنا من مفردات
ومصطلحات وفيما نسمح له أن يغزو عقولهم ويزعزع بناءهم القيمي والأخلاقي….
عسانا نطمئنّ أننا جنود أمناء عليهم وعسى وقفتنا أن تكون عربون شكر نزفها
هدية إلى أرواح شهدائنا الأبرار….

ودامت أمتنا حرة من كل معتدٍ طاهرة من كل غزو
….

جزء من مقالة لـ سهير علي أومري
من موقع الدكتور سامر سقا أميني

» حال الأمة الحالي
» رؤية النور ..(أقصوصة بقلم هنادي الباشا)
» ريعان الشباب