مجانين ولكن.......

من كتاب صور وخواطر للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله:

إذا رأيتم رجلاً يمشي في الطريق منفوش الشعر شارد النظر قد لبس معطفاً على القفا ومشى على غير هدى …قلتم إنه مجنون وقد يكون مجنوناً ولكنه قد يكون فيلسوفاً أو شاعراً أو رياضياَ…
وإذا سمعتم رجلاً لا يفرق بين السراويل والقميص وبين الجمعة والخميس قلتم إنه مجنون ولكنه أتانول فرانس والعهدة على الراوي دعي إلى وليمة يوم الأحد فذهب يوم السبت ولبث ينتظر متعجباً من تأخر الغداء ولبثت ربة الدار تنتظر متعجبة من هذه الزيارة المفاجئة ثم لم يرض أن يصدق أنه يوم السبت …فهل كان أناتول نابغة قومه في البلاغة وباقعة العصر مجنوناً؟
وإذا بلغكم أن إنساناً نسي اسمه قلتم إنه مجنون ولكن الجاحظ نسي كنيته وطفق يسأل عنها حتى جاءه ابن حلال بالبشارة بلقياها فقال له : أنت أبو عثمان فهل كان الجاحظ عبقري الأدب ولسان العرب مجنوناً؟
ونيوتن وقد كان في داره قطة كلما أغلق عليه بابه وقعد إلى كتبه ومباحثه أقبلت تخرمش الباب فتشغله عن عمله حتى يقوم فيفتح لها فلما طال عليه الأمر كدّ ذهنه وأطال بحثه حتى اهتدى إلى المخلص، ففتح في أسفل الباب فتحة تمر منها فاستراح من شرها ثم ولد لها ثلاث قطيطات ففتح لكل واحدة منها فتحة…
لم يستطع هذا العقل الذي وسع قانون الجاذبية أن يتسع لحقيقة صغيرة أن الفتحة تكفي القطة الأم وأولادها ..
وهنري بوانكاريه وقد دعا قوماً إلى وليمة في داره وضرب لها الساعة السابعة موعداً فلما حل الموعد وجاء القوم كان مشغولاً فدعوه فلم يسمع وألحو عليه فلم ينتبه وكان يعرفون شذوذه فأكلوا وانصرفوا وقام بعد ساعتين فأم غرفة المائدة فرأى الصحون الفارغة الملاعق المستعملة ثم غلب على ظنه أنه قد أكل فعاد إلى عمله..
أفكان هؤلاء وفيهم كل عبقري عَلَم وكل نابغة إمام؟
أكانوا كلهم مجانين؟؟؟
فهذا جنون العبقرية
إن العبقري شغل بالعلم فكره كله فلم يبق منه شيء لفهم الحياة فصار عند أهلها مجنوناً…

جميل جدا



شكرا لك