مستلق تجده عند الفجر على سرير
السعف، يدثره غبار المكان في محاولة يائسة ليقيه من برودة مأساته..
وحيث يسكن، لا ديك يصيح ولا طائراً
يغرد عند الفجر، لا شيء يدعوه ليقول...قد أقبل الصباح..إلا شيء واحد...نبض قلبه
الذي يتسارع كأنما هو صرخة سجين في زنزانة عظمية كالحة...
لسبب ما، لدى الفتى اعتقاد دائم
بأن عينيه المؤرقتين ستجدان طعم النوم في خمس دقائق إضافية، يحاول إقناع أمه بها
وهي تخضه بغضب..
في النهاية، ينهض الفتى، وأول ما
اعتاد عليه هو التوجه إلى المرآة..
كان يحدق بها، فيراوده شعور بأنها
ستلفظ صورته الغائمة، لكنّ قلبه النابض بأشلاء الحياة، يدفعه إلى أن يرسم على
الغبار الذي يعلوها، بسمةً ليشق من خلالها مسيرة النهار.
والنهار تلو النهار، والليلة تلو
الليلة...
والفتى يفتش عن أحلامه، ويسأل
الوراقين عن خريطة الكنز...ويمضي آخر النهار في مشاهدة أترابه يلعبون كرة القدم
بعد نهار دراسي طويل..
لشدّ ما كان يحب كرة القدم، بل إنه
من فرط حبه كان يركل البطيخ ركلاً، وسرعان ما كانت البطاقة الحمراء في عيني مديره
ترتفع في وجهه، ويُركل ركلة جزاء إلى أقرب زاوية ،مع بعض الوقت المستقطع زيادة على
ساعات العمل، كان قد أمضاها السيد في بعض السباب...كهدية مجانية
"بخلاء!!"
هذه
هي الكلمة الوحيدة التي كان يرد بها عليهم كلما طرده الفتيان من ملاعب أفراحهم..
فقد
تعود من نفسه الكرم وظن ذلك بالناس..، إنه ليس إلا سكرتير بائع الخضار المتجول، لكنه
يصر على أن يقتطع زكاة فقر مديره، ويوزعها على شحاذ هنا ومتسول هناك، مع أنّ هذا
ليس من صلاحياته، ولكن الفتى يظنّ من تجربته، ظنّ السوء بكل القوانين...ولذلك فهو
لا يقيم لها اعتباراً
ومرت
الأيام ....والفتى يمضغ أيامه ويبصقها آخر النهار في إحدى الحاويات التي تكون آخر
محطات رحلته..
واليوم
صرت تراه عند الفجر...مستلقياً على سرير السعف..دافناً رأسه في وسادته، يسقيها كل
صباح ماء الحزن...
فليست
كرة القدم أول أحلامه، وليست المدرسة، وخريطة الكنز، وشركة للخضار، ودار للأيتام
أمثاله آخرها،
بل
إنَّ لديه طابوراً طويلاً من الأحلام، تنتظر أن يفتح ذلك الفتى قلبه...ولكن
...واأسفاه...
غرق
الفتى، وكانت تدفعه إلى القاع، تجاربه الأليمة، كالسلحفاة الثقيلة..تدوس على
ظهره..
لكنّه
لم يستطع أن يقاوم عادته، فنهض تاركاً الوسادة، وحيدة كنفسه، رطيبةً بدموعه، ثقيلة
باليأس الذي تحمله تلك الدموع، وذهب إلى المرآة..
راقب
وجهه الكئيب، والبحيرتين الحمراوين اللتين كانتا عنوان أفراحه، راقبهما كثيراً حتى
ضاع فيهما..
وقطع
عليه تلك الخلوة، غضب أمه...فودع المرآة وهو يكفكف بسمات الغبار القديمة، وتهيأ
للفتى أن المرآة تودعه، وأن زجاجها تكسر ليزيد في جروح جسمه الهزيل والتي بات
عددها بعدد نجوم ليله المظلم..
ومشى
يقوده الهذيان...
لم
يتجه إلى الورّاقين، ولا إلى ملعب أفراح الفتيان..
لم
يتجه حتى إلى وظيفته، بل اتجه إلى عالمه الخاص..
وقرب
حطام أحلامه، ركن خطواته المثقلة بالفشل، ونزل من مركبته تلك، وأقفل الباب بدموعه
التي كسرتها المرآة أسىً على فراقه...وصرخ أمام الوادي الذي كان يتراءى له...
أيها
الأحياء!.........سأنام، وعندما يصير للحب والحلم قيمة...أيقظوني...
وقبل
أن يرتد إليه طرفه...أجابه صوت بعيد قادم من أفق خياله...
عندما
يصير للحب والحلم قيمة...أيقظوني..!!
وسرعان
ما نازعته نفسه الطيبة إلى إغاثة ذلك الملهوف الجالس في صدر السماء،
لعله
بحاجة إلى بندورة مسروقة في غفلة المدير...أو نبض يتسارع في وداع السرير
وعندئذ
تسارع قلبه من جديد،
وأعاد
تركيب مفتاح خطواته،
وركبها
من جديد...وانطلق من جديد