كان يا ما كان في سالف العصر والأوان ، والآن ، وفي كلِّ آن ...
كان هناك امرأةٌ حكيمة ، رأت أنَّ ابنها بلغَ مبلَغ من يحقُّ له أن يقول : لي صديق . ولأنها تعرف طباع ابنها ، أحبت أن تُرشده إلى ما فيه خيره ، وخير علاقاته ، فقالت له :
ـ أي بُـنيَّ ، أرى أنك قد بلغت من العمر ما يؤهلك لأن يكون لك أصدقاء ..
ـ فقال الولد مقاطعاً : ولكن يا أمي أنا لي اصدقاء منذ زمن ، وأنت تعرفيـنهم ، فما معنى قولك أنني تأهلت للصداقة ؟!
ـ قالت الأم المشفقة : أي بني ، أي حَـبَّـة القلب ، وهل من تختاره بوعي ، كمن تلعب معه بالغريزة ؟ وهل من تتركــه خلفك يحمي ظهرك ، كمن يُعاديك من أجل لعبته ؟ شـتان شـتان يا بني
قال الولد : فلم الآن يا أمي ؟!
ـ ردت الحنونة : الآن ؟ لأنك غدوتَ ذا عقلٍ واختيار ، وعلامةُ العقل والاختيار أن يكون للإنسان أصدقاء . وأنا أحببتُ أن أرشدك لأمر ، إن وضعته في صدرك ورعيته في نفسك ، ونـقـشته في عقلك فلا يغيب عنك أبداً ، نجحـتَ في علاقاتك
سأل الإبنُ بلهفة : وما هو يا أمُّ ؟ فقد شوقـتِـني ، وكُـلِّي آذانٌ صاغية .
أجابت الأم : لبيك وسعديك أي بني ، فاستمع وأعرني انتباهك . إعلم ـ علمك الله كل خير ـ أنك كنتَ عندي تتصــرف علـى سجيتك ، وتتبذل في تصرفاتك ، وتنادي بأعلى صوتك : هكذا أنا
وكنتُ أنا أتقبلك كما أنت ، وأرضى بسجاياك ، وأضحك بيني وبين نفسي على قولك : هكذا أنا ، بل وأقرأ عليك المعوذات تحويطاً لك من عين الحسود ! وكنتُ أغضُّ الطرف عن اخطائك ، وأتجاوز عن عيوبك ، واستوعب سيئاتك .
وقد تسأل لماذا ؟! وكيف استطعتُ ؟!
بكل بساطة لأنني أمك ... لأنَّ عاطفة الأمومة اقوى من كلِّ " قرف " الأولاد ... لأنَّ قلب الأم أوسع من المدى ، وصبرها اقوى من الصبر ... لأنني مخلوقة لأتحمل ، فأنا أحمل كُرهاً ، وأضع كُرهاً ، بطني وعاء ، وثديي سقاء ، ونفسي فداء ، ثم لو قيل : أنت أو ولدك ؟ لقلت بلا تردد : افديه أن يشاك بشوكة ، وأنا جالسة بأمان !
فقال الولد : جميل ما قلتيه يا أمي ، ولقد نبهتني إلى ما لم يكن يخطر لي على بال ، ولكن ما علاقته بالصديق ؟!
قالت الحكيمة : إياك يا بني أن تخرج إلى الناس ، فـتـظن أنهم أمك ، وأنَّ عليهم أن يتحملوك كما أنت ، فإن فعلت فلن يكون لك صديق . لا يا بني ، لا يصلح مع الناس أن تـقول : أيها الناس ، هكذا أنا فاقـبلوا أو دَعوا . إنَّ أبناء الناس ليسوا كأمك ، وليس عليهم أن يُـكـيِّـفوا أنفسهم وِفقـاً لطباعك ، ولا أن يَرضوك على عِلاتك . عليك أن تتعلم كيف تـتـكيف مع أصدقائك ، وأن تمتلك القدرة على التفاهم معهم ، ومداراتهم ، واللين في معاملتهم . إقرأ يا بني إن شئت قوله تعالى :" فبما رحمة من الله لنت لهم " ما هي هذه الرحمة التي أثمرت اللين ؟ أليست هي القدرة على التكيف مع الناس ، والرضى بأحوالهم ، واستيعاب صفاتهم ؟ وهل يكون كلُّ هذا إلا بمخالفة ما اعتادت عليه النفسُ من طباع ؟ وهل يكون هذا إلا بأن يراعي الإنسانُ الخلقَ على حساب نفسه في كثير من الأحيان ؟ ولماذا كان المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم ، كما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
لأنَّ الذي يخالط الناس ، يمتلك القدرة على التكيف ، ويستطيع أن يتغير . وهذا مع الناس دون استـثـناء ، فكيف بالصديق ؟ إنَّـك إن أردت أن تملك صديقك ، فعليك أن تملك نفسك ، وإياك أن تسترسل مع طبعها عبداً لها ، ثم تبغي بعد ذلك أصدقاء
أتطمعُ أن يُطيعك قلبُ سُـعدى وتـزعُم أنَّ قـلـبَـك قد عصاكا ؟
إنَّ صديقك يتوقع منك كما تتوقعُ منه ، ولستَ أولى منه بتقديم توقعاتك على توقعاته .
إنَّ الصداقة يا بني : فـنُّ الـتـغيـر والـتـكـيـف .
وإلا فاجلس في بيت أمك ، ولا تقل لي صديق !