الأصالة والتبعية
------------------------------
الأصالة، لفظة ذات بريق. وذات دلالة مُشرِّفة، فهي تعنى في النسب شرفه وعراقته، وفي الرأي جودته، وفي الأسلوب ابتكاره، وفي الأمة ثباتها وقوتها.
يقال في اللغة: أصُل الشَّيْءُ يأصُل أصالة: ثبت وقوي.
وأصلُ كلّ شَيْءٍ أساسه الذي يقوم عليه، وهو منشؤه الذي ينبت منه.
فالأصالة إذاً وصف يمتدح به الفرد، وتُمتدح به الأمة فالأمة الأصيلة هي ذات الأصول القوية الثابتة، والأفكار والمعتقدات الراشدة والأساليب الحياتية الصحيحة المتطورة، والاستقلالية الغنية بالقيم والآداب والمنجزات.
والفرد الأصيل في الأمة هو الغني بأفكاره الحضارية الرشيدة، وآدابه الراقية الهادية، وابتكاراته النافعة المفيدة، واستقلاله الذاتي المتميز.
فأين مكاننا نحن كأمة وأفراد من هذه الأصالة على امتداد محتواها وكثرة أعضائها وأفنانها.
إننا نقول -من غير كبر، ولا دعاوى فارغة- إن الله عز وجل قد وضعنا في المقام الأسمى والسدّة العليا، بما أمدنا من وسائل الأصالة، والتميز، فكراً واعتقاداً وأدباً، وتعبداً، وسلوكاً، وألزمنا، بأن نكون، وأن نبقى في هذه السدَّة، ظاهرين متميزين، متواضعين، نفَّاعين، صالحين مصلحين، وليس أدل على ذلك من قوله تعالى في وصفه الحكيم لهذه الأمة الأصيلة المتميزة العالية الراقية.
(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ)
وهذه الثلاثة أهم عناصر الأصالة في أمتنا، وأهم عناصر العزة والأمن والأمان في حياتها:1
) إيمان بالله عز وجل خالق الخلق وهاديهم إلى رشادهم وفلاحهم.
2) أمر بالمعروف، والمعروف كل خير، فلا يتقاعسون عن تحقيقه، ولا يقعدون عن الدعوة إليه، ولا يبخلون به.
3) نهي عن المنكر، والمنكر: كل شر ورذيلة، وإساءة، وفرقة، وضعف، وجهل، وسوء خلق، فالمسلمون لا يرضون المنكر، ولا يعملونه، ولا يسكتون عنه، ولا يصدرونه لأحد من أمم الأرض.
لقد تميَّز المسلمون الأوائل بهذه القيم، واتصفوا بهذه المبادئ، وتعاونوا عليها فيما بينهم، ودعوا إليها الناس جميعاً، فاستجاب لهم أمم وشعوب فكانوا معاً في الحق سواء وفي الخير معاً.
واستمع إلى التطبيق العملي، والتطبيق الفعلي لهذه القيم والمبادئ والآداب بقول الحق عز وجل: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاة وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ) الحج 41.
ومن الأصالة في الأمة وأفرادها تتبع الخير في مظانه، والبحث عنه في أرض الله وبلاده، وبين أممه وعباده، فليس للخير أرض، وليس للمعروف وطن، وليس للسمو الأدبي والسلوكي بقعة تخصُّه أين ما كان، وعند من كان فالمسلمون طلابه، والسعاة إليه، والراغبون فيه، والداعون إليه، هذا توجيه دينهم، وهذا هَدْي نبيهم صلى الله عليه وسلم. قال: "نعم المجلس مجلس ينشر فيه الحكمة، وترجى فيه الرحمة". رواه الدارمي.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم "الكلمةُ الحكمةُ ضالةُ المؤمن، فحيثُ وجدها فهو أحق بها" رواه الترمذي
والحكمة: الإصابة والسداد، والوقوف على الحق. وهي مشاع بين الأمة، والمسلمون أحقُّ بها أينما وجدت، هذه ثوابتنا في أصالتنا، لا نحيد عنها، ولا نتكبر بها، ولا نبخل ببذلها، وهي مصدر عزتنا، وينبوع كرامتنا، وأسباب تميزنا، و نور حضارتنا، ودولاب ثقافتنا.
لكن الذي نحزن منه، ونألم له أن أيدينا اليوم قد ارتخت في الشد على هذه الأصالة بقيمها ومثلها، وآدابها، ولم تعد كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ" رواه أبو داود.
لقد عملت فينا سهامٌ من الداخل، ومن الخارج، فأصابت مقاتلنا، وأضعفت أيدينا بالشدّ على هذه الأصالة العالية الراقية، فتفرقنا عنها، وزهدنا بها، ورضينا بالتبعية المقيتة لغيرنا، ولمن لا يحبنا، ولمن يسعى بإذلالنا، والإساءة إلينا.
والتبعية هي السير في أثر الغير، والرضوخ له، والأخذ عنه، وترك الخروج عليه.والتبعية المخزية لا تكون إلا في الأخذ بالدنايا، وتتبع ضالة ما عند الآخرين، أما التبعية في الخير، وأخذ المفيد والنافع منه وعنه، فليس ذلك مع الإتباع المنهي عنه، بل هذا هو من باب "الحكمة ضالة المؤمن، فأينما وجدها فهو أحق بها"، فينبغي أن نأخذ العلم أينما كان، ونتوسع في المعارف، ومن هنا وهناك، فعلم الفيزياء، والرياضيات، والفلك، والطب، والصناعة، علوم مطلوبة، وهي من صلب ما دعا إليه ديننا، وكنا في فترة من الزمن نحن أساتذتها، نبدع فيها ونتصدرها ونعطيها لكل من طلبها، ورغب فيها، وهذا ليس محل جهل ونسيان عند من يعلم ماضينا.
أما ما نخاف التبعية فيه، فإنما هو الأذواق والعادات المستهجنة، والآداب والفلسفات الغريبة، فلكل أمة تاريخها وفلسفتها وأذواقها وعاداتها، فأبشع ما في الأمر أن نقلد في هذه التوافه، وننقل ما عند الغير من هذه المظاهر إلينا، ونتبناها، ونأخذ بها حتى تعود حياتنا مسخاً، لم نحفظ أصالتنا ولم نرتق إلى مصاف غيرنا، وهذا هو الخطر الرهيب الذي ننادي بالحذر منه، والبعد عنه.
وغيرنا من الأمم والشعوب إنما يرسل إلينا هذه البضائع، ويحرص أن ننبهر بأضوائها، فنصبح نسخة مشوهة عنه.
قال الله تعالى فيها: (لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) آل عمران118.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاتكونوا إمَّعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا". رواه الترمذي.
وقال بكل حسرة وأسف: "لتتبعُنَّ سَنَن من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جُحر ضب تبعتموهم" قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟!". رواه البخاري ومسلم.
فيا أسفاً على هذه الأمة كيف انحطت إلى هذا المستوى في التبعية والتخلِّي عن الأصالة، حتى راح نبيها يندب حظها من وراء قرون الغيب، وكله حسرة وألم، وهذا الواقع ليس قدَراً محتَّماً، فهو أمر يمكن الخلاص منه والخروج عليه إذا شعرنا بفضل أصالتنا وسوء تبعيتنا، وأخلصنا النوايا، وبذلنا الجهد.
(إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)
---من مجلة عالم الابداع------