الدفء....الشبع....الحياة

الدفء
كانت حلة الشمندر مملوءة بالحبات الساخنة الناضجة وكان البائع في الحي الدمشقي القديم ينغم نداءه حاثاَ الناس على أن يأكلوا من شمندره الحلو وكان يرتجف من البرد....
جاء الأطفال واشتروا حبات من الشمندر الساخن وتحلقوا حول الحلة التي كان البخار ينبعث منها وراحوا يأكلون في شهية ويتضاحكون
ولفت انتباه البائع صبية صغيرة في التاسعة كانت تقف غير بعيد تتفرج وتتلمظ وترتجف من برد هذا الصباح وكانت غيوم متجهمة تملأ وجهها
مد البائع يده وأخرج حبة كبيرة ساخنة قطعها بسكينه ووضعها في طبق صغير وحملها إلى الصبية مع رشة ملح
امتنعت الصبية فألح وابتسم
-لا أحمل نقوداَ
-كلي! لن آخذ قرشاً واحداً
كان راعه أن يأكل الأطفال حبات الشمندر الساخنة في صقيع هذا الصباح وألا تأكل هي
وسرعان ما التقطت الصبية حبة الشمندر وراحت تقذفها إلى فمها برشاقة وفرح عندئذ شعر البائع
بالدفء...




الشبع
عرفت الخادمة الصغيرة كيف تجلب العصافير إلى الشرفة، كانت تحمل زوراً من حبات البرغل
وتنثرها في أرض الشرفة كل صباح
وكانت العصافير تهرع فتلتقط الحبات الصغيرة بمناقيرها وتغرد فرحاً بالشبع
اكتشفت سيدة البيت فعلة خادمتها فأنبتها ومنعتها من حمل حبات البرغل إلى الشرفة
ويوماً بعد يوم تناقص عدد العصافير الزائدة حتى توقفت العصافير تماماَ عن زيارة الشرفة
حزنت الخادمة الصغيرة حزناً شديداً ولم تجد حلاً إلا باقتطاع جزء كبير من طعامها وراحت تلقيه على أرض الشرفة وعادت العصافير تغرد فرحاً بالشبع الذي لم يتوفر لها إلا بسبب جوع الخادمة التي كانت تحب سماع صوت العصافير كل صباح


الحياة
كانا على الشاطئ امرأة وابنها ذو السنوات الست
سارا قليلاً يستمتعان بنسائم الغروب
-أمي! ما هي الحياة؟
حارت الأم بأي الكلمات تصور للطفل ما هي الحياة؟
ابتسمت وسكتت وعندما جلسا على الشاطئ غير بعيد عن مياه البحر المالحة راحت الأم تبني بالرمل بيتاً
ها هو ذا البيت بجدرانه وسقفه وبابه وشبابيكه وفي غمرة انهماكها ببناء البيت الرملي
حمل البحر موجة عاتية
أطاحت به
-هذه هي الحياة يا بني

أشكرك يا جمان فعلاً كلماتك شفافة تلامس الروح

الكرم

لاحظ الشحاذ زميلاً له لا يعرفه يستعطي الناس قربه
كان أكثر منه إلحاحاً في الاستجداء لكن الناس لم يعطوه شيئاً ربما لإلحاحه أو لسماجته المنفرة
كان الناس يمنحون الشحاذ الأول نقوداً من القطع الصغيرة وكان هذا يقبل منهم بالشكر والبسمة
مرت ساعات وامتلأت كف الشحاذ الأول بالنقود في حين بقيت كف الشحاذ الثاني خاوية
واتجه الأول بالشكر إلى الله، ونظر الثاني إلى السماء نظرة غاضبة
كان جائعاً وخلف في كوخه زوجة وأولاداً ينتظرون وكان من الصعب عليه أن يعود إليهم بيدين تتأرجحان في الهواء ولا تحملان خبزاً وإداماً
ورأى الشحاذ الأول زميله يبكي ...كان يبكي بحق...
وكانت دموعه تنهمر على خديه بصمت
وآذى الشحاذ الأول أن يرى زميله في تلك الحالة فما كان منه إلا ومر كما يمر المانحون العابرون بالشحاذين وأفرغ في كف الزميل نصف ما في كفه من نقود
وابتسم الشحاذ الثاني في دهشة شديدة...لكنه بكى هذه المرة بصوت مسموع...كان هذا الكرم مما لا يخطر في بال بشر



الاستثنائي

علمته أمه أن يخرج في الصباح الباكر إلى سوق الخضار يلتقط من الأرض خضاراً نصف فاسدة يجمعها في كيس ويعود بها إلى البيت لتنظفها الأم وتنزع الأقسام الفاسدة منها وتهيئها للطبخ
على هذا كانت الأسرة الفقيرة التي فقدت معيلها تعيش يوماً بعد يوم
هذا الصباح قدم تاجر خضار للفتى تفاحة جيدة كبيرة، لشد ما تاق إلى قضمها بسبب جوعه، قربها أكثر من مرة من فمه ليعضها بأسنانه لكنه عدل عن ذلك..
خبأ التفاحة في جيبه ولما عاد إلى البيت بالخضار التي جمعها من الطريق دخل المطبخ وأخذ سكيناً قطع بها التفاحة أربع قطع متساوية ومضى نحو أمه وأختيه فقدم لكل منهن قطعة واحتفظ لنفسه بالقطعة الرابعة
وأكل الجميع قطع التفاحة الأربع وتلذذوا بها، وكان صباحهم هذا اليوم استثنائياً جداً!!!


الصمت

تعرض الشاب هذا الصباح إلى أزمة غير عادية ، كانت تخصه وحده
كان صامتاً أبداً لا يتكلم إلا بمقدار، وكانت الكلمات القليلة تخرج من فمه رغماً عنه وهكذا عاش عمره
سيق إلى استجواب مباغت في الصباح وحرك مستجوبوه آلة تسجيل وطلب إليه أن يسرد قصة حياته بأدق ما فيها من تفاصيل
عجز الشاب عن الحكي، لم يكن في قدرته أن يتغلب على طبيعته في الصمت ومع أن حكيه في الصباح كان ضرورياً إلا أنه لم يتمكن
كانت الكلمات الموجزة التي خرجت من فمه عاجزة عن تصوير حياته مما جعل المستجوب يظن أنه لا يريد الحكي وهو في الحقيقة لا يستطيع
وحثه على الحكي وقال له بصراحة: الكلام في صالحك، والصمت ضدك، احك!....احك!!
ولم يستطع الشاب من جديد أن يقول شيئاً
وفقد المستجوب صبره أخيراً فكتب في أوراق التحقيق الخاصة بالشاب كلمتين فقط: لم يحك!
كان الشاب يدرك أن عقاب الصامت أشد من عقاب الحاكي
لكنه كان مستعداً لمواجهة هذا العقاب لعجزه أو ربما كي لا يخالف طبيعته


العينان

كان للطفلة ابنة الاثني عشر عاماً عينان كبيرتان تشبه كل منهما لوزة خضراء وكان يطيب لها أن تحلم في اليقظة وكانت حدقتاها وقتئذ تتسعان وكانت تغيب عن الواقع
كانت العينان تحملان صاحبتهما إلى سهوب وبساتين مجهولة وسماوات مستحيلة وأنهار ومساقط مياه ما رأتها عيون بشرية من قبل
وكانت الفتاة سعيدة بأحلامها حفية بها كلما اشتد البؤس بها
عرف الناس أن عيني الطفلة ملجؤها من البؤس والتعاسة
فحاولوا أن تكون لهم عيون مماثلة ولما فشلوا
توسلوا إلى الطفلة أن تعيرهم عينيها فلم تبخل
وهكذا صار الناس يهربون بعيداً جداً، بعينيها....