أثر فتح القسطنطينية على العالم الأوربي والإسلامي
د. علي الصلابي
----------------------------------------------------------------------
كانت القسطنطينية قبل فتحها عقبة كبيرة في وجه انتشار الإسلام في أوربا؛ ولذلك فإن سقوطها يعني فتح أوربا لدخول الإسلام بقوة, وسلام لمعتنقيه أكثر من ذي قبل، ويعتبر فتح القسطنطينية من أهم أحداث التاريخ العالمي، وخصوصًا تاريخ أوربا وعلاقتها بالإسلام, حتى عده المؤرخون الأوربيون ومن تابعهم نهاية العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة[1].
وقد قام السلطان بعد ذلك على ترتيب مختلف الأمور في المدينة، وإعادة تحصينها، واتخذها عاصمة للدولة العثمانية, وأطلق عليها لقب إسلام بول؛ أي: مدينة الإسلام[2].
لقد تأثر الغرب النصراني بنبأ هذا الفتح، وانتاب النصارى شعور بالفزع والألم والخزي، وتجسم لهم خطر جيوش الإسلام القادمة من إسطنبول، وبذل الشعراء والأدباء ما في وسعهم لتأجيج نار الحقد وبراكين الغضب في نفوس النصارى ضد المسلمين، وعقد الأمراء والملوك اجتماعات طويلة ومستمرة تنادي النصارى إلى نبذ الخلافات والحزازات, وكان البابا نيقولا الخامس أشد الناس تأثرًا بنبأ سقوط القسطنطينية، وعمل جهده وصرف وقته في توحيد الدول الإيطالية وتشجيعها على قتال المسلمين..
وترأس مؤتمرًا عقد في روما أعلنت فيه الدول المشتركة عن عزمها على التعاون فيما بينها وتوجيه جميع جهودها وقوتها ضد العدو المشترك, وأوشك هذا الحلف أن يتم إلا أن الموت عاجل البابا, بسبب الصدمة العنيفة الناشئة عن سقوط القسطنطينية في يد العثمانيين, والتي تسببت في همه وحزنه فمات كمدًا في 25 مارس سنة 1455م[3].
وتحمس الأمير فيليب الطيب دوق بورجونديا والتهب حماسًا وحمية, واستنفر ملوك النصارى إلى قتال المسلمين, وحذا حذوه البارونات والفرسان والمتحمسون والمتعصبون للنصرانية، وتحولت فكرة قتال المسلمين إلى عقيدة مقدسة تدفعهم لغزو بلادهم، وتزعمت البابوية في روما حروب النصارى ضد المسلمين, وكان السلطان محمد الفاتح بالمرصاد لكل تحركات النصارى، وخطط ونفذ ما رآه مناسبًا لتقوية دولته وتدمير أعدائه، واضطر النصارى -الذين كانوا يجاورون السلطان محمد أو يتاخمون حدوده في آماسيا، وبلاد المورة، طرابيزون وغيرهم- أن يكتموا شعورهم الحقيقي، فتظاهروا بالفرح وبعثوا وفودهم إلى السلطان في أدرنة لتهنئته على انتصاره العظيم[4].
وحاول البابا بيوس الثاني بكل ما أوتي من مقدرة خطابية، وحنكة سياسية، تأجيج الحقد الصليبي في نفوس النصارى شعوبًا وملوكًا، قادة وجنودًا, واستعدت بعض الدول لتحقيق فكرة البابا الهادفة للقضاء على العثمانيين, ولما حان وقت النفير اعتذرت دول أوربا بسبب متاعبها الداخلية..
فلقد أنهكت حرب المائة عام إنجلترا وفرنسا، كما أن بريطانيا كانت منهمكة في مشاغلها الدستورية وحروبها الأهلية، وأما أسبانيا فهي مشغولة بالقضاء على مسلمي الأندلس, وأما الجمهوريات الإيطالية فكانت تهتم بتوطيد علاقاتها بالدولة العثمانية مكرهة وحبًّا في المال، فكانت تهتم بعلاقتها مع الدولة العثمانية.
وانتهى مشروع الحملة الصليبية بموت زعيمها البابا, وأصبحت المجر والبندقية تواجه الدولة العثمانية لوحدهما؛ أما البندقية فعقدت معاهدة صداقة وحسن جوار مع العثمانيين؛ رعاية لمصالحها, وأما المجر فقد انهزمت أمام الجيوش العثمانية واستطاع العثمانيون أن يضموا إلى دولتهم بلاد الصرب، واليونان والأفلاق والقرم والجزر الرئيسية في الأرخبيل, وقد تم ذلك في فترة قصيرة، حيث داهمهم السلطان الفاتح، وشتت شملهم، وأخذهم أخذًا عظيمًا[5].
وحاول البابا "بيوس الثاني" بكل ما أوتي من مهارة وقدرة سياسية تركيز جهوده في ناحيتين اثنتين: حاول أولاً أن يقنع الأتراك باعتناق الدين النصراني، ولم يقم بإرسال بعثات تبشيرية لذلك الغرض, وإنما اقتصر على إرسال خطاب إلى السلطان محمد الفاتح يطلب منه أن يعضد النصرانية، كما عضدها قبله قسطنطين وكلوفيس, ووعده بأنه سيكفر عنه خطاياه إن هو اعتنق النصرانية مخلصًا، ووعده بمنحه بركته واحتضانه ومنحه صكًّا بدخول الجنة.
ولما فشل البابا في خطته هذه, لجأ إلى الخطة الثانية خطة التهديد والوعيد واستعمال القوة، وكانت نتائج هذه الخطة الثانية قد بدأ فشلها مسبقًا بهزيمة الجيوش الصليبية والقضاء على الحملة التي قادها هونياد المجري[6].
وأما آثار هذا الفتح المبين في المشرق الإسلامي, فنقول لقد عم الفرح والابتهاج المسلمين في ربوع آسيا وإفريقيا, فقد كان هذا الفتح حلم الأجداد وأمل الأجيال، ولقد تطلعت له طويلاً, وها قد تحقق, وأرسل السلطان محمد الفاتح رسائل إلى حكام الديار الإسلامية في مصر والحجاز وبلاد فارس والهند وغيرها؛ يخبرهم بهذا النصر الإسلامي العظيم, وأذيعت أنباء الانتصار من فوق المنابر، وأقيمت صلوات الشكر، وزينت المنازل والحوانيت وعلقت على الجدران والحوائط والأعلام والأقمشة المزركشة بألوانها المختلفة[7].
يقول ابن إياس صاحب كتاب "بدائع الزهور" في هذه الواقعة: "فلما بلغ ذلك، ووصل وفد الفاتح، دقت البشائر بالقلعة، ونودي في القاهرة بالزينة، ثم إن السلطان عين برسباي أمير آخور ثاني رسولاً إلى ابن عثمان يهنئه بهذا الفتح"[8].
وندع المؤرخ أبا المحاسن بن تغري بردي يصف شعور الناس وحالهم في القاهرة عندما وصل إليها وفد الفاتح ومعهم الهدايا وأسيران من عظماء الروم، قال: "قلت ولله الحمد والمنة على هذا الفتح العظيم, وجاء القاصد المذكور ومعه أسيران من عظماء إسطنبول, وطلع بهما إلى السلطان "سلطان مصر إينال" وهما من أهل القسطنطينية وهي الكنيسة العظيمة بإسطنبول, فسُر السلطان والناس قاطبة بهذا الفتح العظيم, ودقت البشائر لذلك, وزينت القاهرة بسبب ذلك أيامًا, ثم طلع القاصد المذكور وبين يديه الأسيران إلى القلعة في يوم الاثنين خامس وعشرين شوال, بعد أن اجتار القاصد المذكور ورفقته بشوارع القاهرة, وقد احتفلت الناس بزينة الحوانيت والأماكن وأمعنوا في ذلك إلى الغاية, وعمل السلطان الخدمة بالحوش السلطاني من قلعة الجبل"[9].
وهذا الذي ذكره ابن تغري بردي من وصف احتفال الناس وأفراحهم في القاهرة بفتح القسطنطينية ما هو إلا صورة لنظائر لها قامت في البلاد الإسلامية الأخرى, وقد بعث السلطان محمد الفاتح برسائل الفتح إلى سلطان مصر وشاه إيران وشريف مكة وأمير القرمان، كما بعث بمثل هذه الرسائل إلى الأمراء المسيحيين المجاورين له في المورة والأفلاق والمجر والبوسنة وصربيا وألبانيا, وإلى جميع أطراف مملكته[10].
من رسالة الفاتح إلى سلطان مصر:وإليك مقتطفات من رسالة الفاتح إلى أخيه سلطان مصر الأشرف إينال وهي من إنشاء الشيخ أحمد الكوراني: "إن من أحسن سنن أسلافنا -رحمهم الله تعالى- أنهم مجاهدون في سبيل الله, ولا يخافون لومة لائم, ونحن على تلك السنة قائمون وعلى تيك الأمنية دائمون, ممتثلين بقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29]، ومستمسكين بقوله : "من أغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار". فهممنا في هذا العام عممه الله بالبركة والإنعام, معتصمين بحبل الله ذي الجلال والإكرام, ومتمسكين بفضل الملك العلام إلى أداء فرض الغزاء في الإسلام, مؤتمرين بأمره تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123], وجهزنا عساكر الغزاة والمجاهدين من البر والبحر لفتح مدينة ملئت فجورًا وكفرًا التي بقيت وسط الممالك الإسلامية تباهي بكفرها فخرًا.
فكأنها حصف على الخد الأغر *** وكأنها كلف على وجه القمر
هذه المدينة الواقع جانب منها في البحر وجانب منها في البر، فأعددنا لها كما أمرنا الله بقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60], كل أهبة يعتد بها وجميع أسلحة يعتمد عليها من البرق والرعد والمنجنيق والنقب والحجور وغيرها من جانب البر, والفلك المشحون والجوار المنشآت في البحر كالأعلام من جانب البحر, ونزلنا عليها في السادس والعشرين من ربيع الأول من شهور سنة سبع وخمسين وثمانمائة.
فقلت للنفس جدي الآن فاجتهدي *** وساعديني فهـذا مـا تمنـيت
فكلما دعوا إلى الحق أصروا واستكبروا وكانوا من الكافرين, فأحطنا بها محاصرة وحاربناهم وحاربونا وقاتلناهم وقاتلونا, وجرى بيننا وبينهم القتال أربعة وخمسين يومًا وليلة.
إذا جاء نصر الله والفتح هين *** على المرء معسور الأمور وصعبها
فمتى طلع الصبح الصادق من يوم الثلاثاء يوم العشرين من جمادى الأولى هجمنا مثل النجوم رجومًا لجنود الشياطين, سخرها الحكم الصديقي ببركة العدل الفاروقي بالضرب الحيدري لآل عثمان, قد مَنَّ الله بالفتح قبل أن تظهر الشمس من مشرقها, {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهي وَأَمَرُّ} [القمر: 45، 46].
وأول من قتل وقطع رأسه تكفورهم اللعين الكنود, فأهلكوا كقوم عاد وثمود, فأخذتهم ملائكة العذاب, فأوردهم النار وبئس المآب, فقتل من قتل وأسر من به بقي, وأغاروا على خزاينهم, وأخرجوا كنوزهم ودفائينهم موفورًا, فأتى عليهم حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا, وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين, فيومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، فلما ظهرنا على هؤلاء الأرجاس الأنجاس الحلوس, طهرنا القوس من القسوس, وأخرجنا منه الصليب والناقوس, وصيرنا معابد عبدة الأصنام مساجد أهل الإسلام, وتشرفت تلك الخطة بشرف السكة والخطبة, فوقع أمر الله وبطل ما كانوا يعملون..."[11].
وأرسل السلطان الفاتح رسالة إلى شريف مكة عن طريق سلطان مصر, وقد رد سلطان مصر على خطاب السلطان محمد وهداياه بمقطوعة من النثر الأدبي الرفيع, وجاءت فيها بعض الأبيات الشعرية المعبرة مثل قول الشاعر:
خطبتها بكـرًا ومـا أمهرتها *** إلا قنـا وقـواضبًا وفوارسـا
من كانت السمر العوالي مهره *** جلبت له بيض الحصون عرايسا
الله أكبـر مـا جنيت ثمارها *** إلا وكان أبوك قبلك غراسا[12]
وقد جاء في رسالة سلطان مصر أيضًا هذا البيت, قال الشاعر:
الله أكبر هذا النصر والظفر *** هذا هو الفتح لا ما يزعم البشر[13]
وقال شاعر سلطان مصر بمناسبة فتح القسطنطينية:كذا فليكن في الله جل العزايم *** وإلا فلا تجفـو الجفـون الصـوارم
كتائبك البحر الخضم جيادها *** إذا ما تهـدت موجـه المتـلاطـم
تحيط بمنصور اللـواء مظفـر *** له النصـر والتأييد عبـد وخـادم
فيا ناصر الإسلام يا من بغـزوه *** علـى الكفر أيام الزمان مواسـم
تهنَّ بفتح سار في الأرض ذكره *** سرى الغيث يحدوه الصبا والنعايم[14]
رسالة السلطان محمد الفاتح إلى شريف مكة:
وجه السلطان محمد الفاتح رسالة إلى شريف مكة المكرمة بمناسبة فتح القسطنطينية بشره فيها بالفتح، وطلب الدعاء، وأرسل له الهدايا من الغنائم، وهذه بعض فقراتها:
بعد مقدمة في المدح والثناء على شريف "مكة المكرمة" يقول:"فقد أرسلنا هذا الكتاب مبشرًا بما رزق الله لنا في هذه السنة من الفتوح التي لا عين رأت ولا أذن سمعت، وهي تسخير البلدة المشهورة بالقسطنطينية، فالمأمول من مقر عزكم الشريفة أن يبشر بقدوم هذه المسرة العظمى والموهبة الكبرى، مع سكان الحرمين الشريفين، والعلماء والسادات المهتدين، والزهاد والعباد الصالحين، والمشايخ، والأمجاد الواصلين، والأئمة الخيار المتقين، والصغار والكبار أجمعين، والمتمسكين بأذيال سرادقات بيت الله الحرام، التي كالعروة الوثقى لا انفصام لها والمشرفين بزمزم والمقام، والمعتكفين في قرب جوار رسول الله عليه التحية والسلام, داعين لدوام دولتنا في العرفات، متضرعين من الله نصرتنا، أفاض علينا بركاتهم ورفع درجاتهم، وبعثنا مع المشار إليه هدية لكم خاصة ألفي فلوري من الذهب الخالص التام الوزن والعيار المأخوذ من تلك الغنيمة، وسبعة آلاف فلوري أخرى للفقراء، منها ألفان للسادات والنقباء، وألف للخدام المخصوصين للحرمين، والباقي للمساكين المحتاجين في مكة والمدينة المنورة، زادهما الله شرفًا، فالمرجو منكم التقسيم بينهم بمقتضى احتياجهم وفقرهم، وإشعار كيفية السير إلينا، وتحصيل الدعاء منهم لنا، دائمًا باللطف والإحسان إن شاء الله تعالى، والله يحفظكم ويبقيكم بالسعادة الأبدية والسيادة السرمدية إلى يوم الدين"[15].
وقد رد شريف مكة على رسالة السلطان محمد الفاتح:"وفتحناها بكمال الأدب، وقرأناها مقابل الكعبة المعظمة بين أهل الحجاز وأبناء العرب, فرأينا فيها من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، وشاهدنا من فحاويها ظهور معجزة رسول الله خاتم النبيين وما هي إلا فتح "القسطنطينية" العظمى وتوابعها التي متانة حصنها مشهورة بين الأنام، وحصانة سورها معروفة عند الخواص والعوام وحمدنا الله بتيسير ذلك الأمر العسير وتحصيل ذلك المهم الخطير، وبششنا ذلك غاية البشاشة، وابتهجنا من إحياء مراسم آبائكم العظام والسلوك مسالك أجدادكم الكرام، روّح الله أرواحهم، وجعل أعلى غرف الجنان مكانهم، في إظهار المحبة لسكان الأراضي المقدسة"[16].
المصدر: صحيفة ليبيا اليوم.
[1] انظر: يلماز أوزيونا: تاريخ الدولة العثمانية ص384.
[2] انظر: محمد فريد بك: تاريخ الدولة العلية ص164.
[3] انظر: السلطان محمد الفاتح ص136، 137.
[4] المصدر السابق نفسه ص140.
[5] انظر: السلطان محمد الفاتح ص140.
[6] انظر: السلطان محمد الفاتح ص141.
[7] المصدر السابق نفسه ص142.
[8] المصدر السابق نفسه ص142.
[9] النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 16/71.
[10] انظر: محمد الفاتح ص142.
[11] محمد الفاتح ص163-167.
[12] محمد الفاتح ص175.
[13] المصدر السابق ص176.
[14] محمد الفاتح ص177.
[15] د. جمال عبد الهادي: الدولة العثمانية ص47.
[16] المصدر السابق نفسه ص48.