فقه التمكين عند ذي القرنين (2)
أخـلاق ذي القـرنيـن القيـاديـة
------------------------------------------
إنّ شخصية ذي القرنين تميزت بأخلاق رفيعة، ساعدته على تحقيق رسالته الدعوية والجهادية في الحياة، ومن أهم هذه الأخلاق:
1- الصبر: كان جلدًا صابرًا على مشاق الرحلات؛ فمثلاً تلك الحملات التي كان يقوم بها تحتاج إلى جهود جبارة في التنظيم والنقل والتحرك والتأمين, فالأعمال التي كان يعملها تحتاج إلى جيوش ضخمة, وإلى عقلية يقظة, وذكاء وقّاد, وصبر عظيم، وآلات ضخمة، وأسباب معينة على الفتح والنصر والتملك[1].
2- كانت له مهابة ونجابة: يستشعرها من يراه لأول مرة, فلا يخطئ ظنه عندما يوقن أنه ليس بملكٍ جبار ولا ظالم, فعندما بلغ بين السدَّيْن، ووجد القوم المستضعفين, استأنسوا به, ووجدوا فيه مخلّصًا من الظلم والقهر الواقع عليهم، فبادروه بسؤال المعونة؛ فمن الذي أدراهم بأنه لن يكون مُفسِدًا مثلهم, ومعه من القوة والعُدَّة ما ليس مثلهم[2].
3- الشجاعة: كان قويَّ القلب، جسورًا غير هيَّاب من التبعات الضخمة والمسئوليات العظيمة إذا كان في ذلك مرضاة الله سبحانه, فإن ما طُلب من إقامة السد, كان عملاً عظيمًا في ذاته, حيث إن القوم المفسدين كانوا من الممكن أن يوجِّهوا إفسادهم إليه وإلى جنوده, ولكنه أقدم وأقبل غير متأخر ولا مُدبِر[3].
4- التوازن في شخصيته: فلم تعكر شجاعته على حكمته, ولم ينقص حزمه من رحمته, ولا حسمه من رفقه وعدالته, ولم تكن الدنيا كلها -وقد سُخرت له- كافية لإثنائه عن تواضعه وطهارته وعفته.
5- كثير الشكر: لأنه كان صاحب قلب حيّ موصول بالله تعالى, فلم تُسكره نشوة النصر, وحلاوة الغلبة بعدما أذل كبرياء المفسدين, بل نسب الفضل إلى ربه سبحانه[4] وقال: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} [الكهف: 98].
6- كان عفيفًا مترفعًا عن مالٍ لا يحتاجه, ومتاعٍ لا ينفعه: فإن القوم المستضعفين لما شكوا إليه فساد المفسدين, عرضوا عليه الخراج؛ (فأجابهم بعفة وديانة وصلاح: إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه، وما أنا فيه خير من الذي تبذلونه)[5].
ا
لإيمان بالله مفتاح شخصية ذي القرنينإن مفتاح شخصية ذي القرنين تتمثل في إيمانه بالله تعالى والاستعداد لليوم الآخر, وحبه لأهل الإيمان وبغضه لأهل الكفر والعصيان, وحبه العميق للدعوة إلى الله؛ فالإيمان بالله واليوم الآخر يظهر ذلك جليًّا في شخصية ذي القرنين عند قوله تعالى: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف: 95], وقوله: {مَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا} [الكهف: 87], وقوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف: 98].
وهذه المواضع التي صرح بأنه كان مؤمنًا بالله واليوم الآخر يُستفاد منها أمور:
- إن الثناء على الحاكم لا يكون بمجرد شجاعة أو فتوح أو عمارة, ما لم ينضم إليها الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لأن هناك حكامًا كثيرين كانت لهم من الإصلاحات الدنيوية المجردة ما يعتبرهم الناس من أجله عظماء, ومع ذلك لم يورد القرآن لهم ذكرًا حسنًا, بل جاء في القرآن ذم حكام عمروا في الدنيا كثيرًا، ولكنهم خربوا أديان الناس وأفسدوا عليهم آخرتهم، مثل فرعون وهامان والنمرود ونحوهم.
- إن التوازن المدهش والخلاّب في شخصية ذي القرنين، سببه إيمانه بالله تعالى واليوم الآخر؛ ولذلك لم تطغَ قوته على عدالته, ولا سلطانه على رحمته, ولا غناه على تواضعه, وأصبح مستحقًّا لتأييد الله وعونه؛ ولذلك أكرمه الله تعالى بالأخذ بأسباب التمكين والغلبة، وهو تفضلٌ من الله تعالى على عبده الصالح, فجعل له مُكْنَة وقدرة على التصرف في الأرض من حيث التدبير والرأي وكثرة الجنود والهيبة والوقار[6].
وكذلك أكرمه بكثرة الأعوان والجنود، وقذف الرعب في قلوب الأعداء، وتسهيل السير عليه, وتعريفه فجاج الأرض واستيلائه على برها وبحرها[7], وتمكنه بذلك من تملك المشارق والمغارب من الأرض.. فكل هذه الأمور لا تُعطى لشخص عادي, ولا يمكن أن يحققها حاكم بحوله وقوته وذكائه مهما بلغ, إلا أن يكون مؤيَّدًا من الله, ذلك التأييد الذي ينصر الله به عباده المؤمنين, ويدل على هذه العناية أيضًا ضمير العظمة في قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف: 84]، أي: أمده بكل ما أراده من مهمات ملكه ومقاصده المتعلقة بسلطانه, فزوَّده بعلم منازل الأرض وأعلامها، وعرفه ألسنة الأقوام الذين كان يغزوهم, فكان لا يغزو قومًا إلا كلمهم بلسانهم[8].
رعاية الله لذي القرنينلقد أعطاه الله تعالى من كل شيء سببًا, وينصرف ذهن السامع أو القارئ إلى وجوه التمكين له في الأرض, وأسبابه من العلوم والمعرفة واستقراء سنن الأمم والشعوب صعودًا وهبوطًا, وفي سياسة النفوس أفرادًا وجماعات؛ تهذيبًا وتربية وانتظامًا, وأعطاه من أسباب القوة من الأسلحة والجيوش، وأسباب القوة والمنعة والظفر, وأسباب العمران وتخطيط المدن وشق القنوات وإنماء الزراعة، مهما قيل ومهما تصور من أسباب التمكين التي تليق برجلٍ رباني قد مُكِّن له في هذه الأرض[9]، يمكن أن يدخل تحت قوله تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف: 84]. لقد كانت رعاية الله تعالى لذي القرنين عظيمة بسبب إيمانه بالله تعالى, واستعداده لليوم الآخر؛ ولذلك فتح له باب التوفيق وفق ما سعى إليه من أهداف وغاية سامية.
لقد بذل ذو القرنين ما في وسعه من أجل دعوة الناس إلى عبادة الله, فقد جمع بين الفتوحات العظيمة بحدِّ السيف, وفتوحات القلوب بالإيمان والإحسان, فكان إذا ظفر بأمة أو شعب دعاهم إلى الحق والإيمان بالله تعالى قبل العقاب أو الثواب, وكان حريصًا على الأعمال الإصلاحية في كل الأقاليم والبلدان التي فتحها, فسعى في بسط سلطان الحق والعدالة في الأرض شرقًا وغربًا, وكان صاحب ولاء ومحبة لأهل الإيمان, مثلما كان معاديًا لأهل الكفران[10].
د. علي محمد الصلابي