هل تبدأ وتختار أم تنتظر وتحتار?

إن إدارة الوقت بوصفها إطاراً لكيفية تناولك كل تفاصيل حياتك قد استنفدت صلاحيتها منذ أمدٍ بعيد. على امتداد تاريخها كانت الأداة الرئيسة في إدارة الوقت التقويم والساعة، ولكنا نعيش الآن في القرن الحادي والعشرين. ومع التقدم التكنولوجي السريع أصبحت حياتنا معقدةً إلى حدٍ يجعل التقويم غير كافٍ لإدارتها. وإنني لأراهن عزيزي القارئ أنك كثيراً ما تغيب أو تتخلّى عن أحداث ومواعيد وضعتها من قبل على تقويمك.

إنّ مجرّد وضع شيءٍ على التقويم لا يعني بالضرورة أنّه سيتحقّق. والأهم من ذلك أن تفكّر: هل ما تزال تحضر أو تقوم بالأشياء التي وضعتها على تقويمك بالطريقة ذاتها التي كنت تقوم بها من قبل؟

كم تنفق من الوقت..
أم أين ولماذا تنفق الوقت؟

اليوم، أصبح الهاتف الذكيّ شائعاً وبات معظمنا يحمل "العالم في جيبه" وأصبح سهلاً جداً ومغرياً جداً: "تفقّد من يتصل الآن" أو "الردّ بسرعة على تلك الرسالة" أو "تفقّد الإجابات على أسئلتك.." والقائمة لا تكاد تنتهي من الأشياء التي يمكننا القيام بها في أية لحظة. قبل أن تنتبه لنفسك يمكن بسهولةٍ أن تمضي وقت الميعاد المحدد ودماغك غارق في جهازك المحمول براحة اليد. لا يغير هذا شيئاً في حقيقة انّك قد "أنفقت الوقت" لكن يمكن أن تكون تجربتك في ذلك الحدث مختلفةً جداً عمّا كنت تتوقّعها.

بالنظر إلى ذلك فإنني أقول إن ما يهمُ حقاً هو ليس كيف تنفق وقتك وإنما كيف تنفق انتباهك. مع الطلب المغرق والمتواصل على انتباهنا الذي يولّده "غزو الشاشة" الذي نعرّض أنفسنا له (الهاتف الذكي، الحاسوب، التلفزيون..) تزداد أكثر فأكثر صعوبة توجيه انتباهنا حقاً إلى أمرٍ واحدٍ لفترة طويلة. ويؤثّر هذا على تفاعلاتنا وعلاقاتنا وتجاربنا. فبالتأكيد ستكون تجربتك مع شيءٍ ما وأنت بكامل انتباهك مختلفةً تماماً عن تجربتك إياه وأنت مشتّت.

يقول ويليام جيمس أحد كبار فلاسفة القرن العشرين: "تجربتي هي ما أختار الانغماس فيه". الأشياء التي "ترضى أو تختار الانغماس فيها" تقرّر تجربتك Experience. مثلاً: إن كنت تستمتع بلعب الغولف فأنت على الأغلب لا تستمع بلعب الغولف وحسب بل وتقرأ المجلات المتخصصة في هذه اللعبة، وتتحدّث مع الناس عنها، وتكوّن أصدقاء بسبب ممارستها. وفي الجانب المعاكس هناك أشياء كثيرة في العالم بالكاد تدري بوجودها ولذلك ليست لديك تجارب متعلقة بها. حياتك نتيجة لتجاربك. يمكنك أن تعتبر حياتك ببساطة سلسلة من التجارب، وإذاً تأمّل في هذا:

إن كانت تجربتك هي ما تختار (أو ما ترضى) حضوره أو الانغماس فيه، وإذا كانت حياتك مكوّنةً من تجاربك، فإذاً: أي حياةٍ تعيش إن لم تكن تختار ما تنغمس فيه وإنما تجد انتباهك يسرق منك سرقةً على الدوام؟

قبل أن تعرف ما تريد.. هل تعرف ما لا تريد؟
هل تبدأ وتختار أم تنتظر وتحتار؟

كم مرة وجدت نفسك تنفق النهار كلّه, أو جزءاً كبيراً منه غارقاً في زحمة الشغل ثم عندما تنظر خلفك تفاجأ وتقول: ماذا صنعت؟ أين ذهبت الساعات؟ قائمة المهمات لم تزل على حالها تقريباً! يحدث هذا عادةً نتيجةً إنفاقنا الوقت إنفاقاً "انفعالياً Reactive" وليس إنفاقاً فاعلاً. أنت تقرأ ثم ترد على الإيميلات، تصغي إلى البريد الصوتيّ ثم ترد على المكالمات، تحضر الاجتماعات، وتنخرط في شؤون من لا تتوقّف رؤوسهم عن الإطلال على مكتبك كل حين وآخر.

ثمّ قد يعنّ لك القفز إلى وسائط التواصل الاجتماعية، أو قراءة عناوين الأخبار في مواقعك المفضلة؟.. وفجأةً تجد الساعات انقضت.
إن التطورات التكنولوجية تعني أن هناك على الدوام أمواجاً غامرةً من المعلومات وغاباتٍ شاسعة من التواصلات التي تنبغي أو تحلو مواكبتها، وهكذا يصبح محتملاً جداً وسهلاً جداً أن تنفق وقتك كلّه منفعلاً ومستجيباً للنداءات والجواذب التي لا تكاد تنتهي. إنّك تنفق وقتك منفعلاً مستجيباً بدلاً من أن تختار اختيارً ما يستحوذ على انتباهك. وأنشطتك تمليها مؤثرات خارجية بدلاً من أن ترسم بقراراتك أنت.

وفي النهاية، إن لم تكن تختار ما تنغمس فيه فلا غرابة أن تجد نفسك في معظم الأحوال لا تعيش الحياة التي تريدها وترضاها لنفسك. لذلك أقول لك عزيز القارئ: لا تنهك نفسك وتضيّع وقتك في إدارة وقتك. إنني أقترح عليك بدلاً من ذلك أن تركّز على إدارة اهتمامك وانتباهك.