د. عبد الكريم بكار
التوازن شيء جميل
ومطلوب ومرغوب وإن الإنسان لينتزع إعجاب الغير حين يجتمع فيه ما تفرق في غيره...
وسنطرح السؤال
التالي: هل التوازن في حياة المسلم هو الأصل أو أن الأصل هو اختلال التوازن؟
الجواب: لا
..الأصل في الإنسان أن لا يكون الإنسان متوازناً فالتوازن يحتاج إلى جهد وعقل وإلى
فكر وإلى اجتهاد وإلى مجاهدة للنفس
هل الأصل في
الإنسان أن يكون عالماً؟؟؟
إذن..الاختلال
سيحصل في حياتنا ما لم نسع سعياً حثيثاً وواعياً إلى أن نحصل على التوازن المطلوب
أمور لا بد من
إدراكها للسير نحو التوازن:
أولاً: أن يدرك
الإنسان مبادئه وواجباته:
ثانياً: تحديد
الإنسان لهدفه: إنسان من غير أهداف محددة وواضحة يسعى إليها هو إنسان ضائع ، ولنتصور
طالباً في فترة الاختبارات، وهدفه في النجاح ليس واضحاً ، فقد يلعب بالكرة أو يجلس
على التلفاز والطلاب يذاكرون مع العلم أن عنده غداً امتحان صعب! فما بالك في إنسان
يعيش 60 أو 70 سنة وهو لا يعرف تماماً ما الذي عليه أن يفعله، ومثال على ذلك ما
قال ابن الجوزي (بتصرف): وفي زماننا من الناس من لو ضربته حتى يصلي ما صلى وهذا
الشخص نفسه لو جلدته على أن يفطر في رمضان ما أفطر!
ثالثاً: معرفة
السنن والآداب والبعد عن الغلو والتشدد:المجتمع المسلم حين يتمسك بالسنة توجد هذه
السنة أولاً ألفة اجتماعية بين الناس وهذه الألفة تأتي من خلال التشابه في
المظهر..التشابه في الأداء....في الأعمال...في التصرفات ...وفي المواقف، ودائماً
التشابه يوجِد الألفة..
فالسنة هي عامل
ألفة بين المسلم بالإضافة إلى أنها جبر للنواقص في الفرائض وبالإضافة إلى أنها خط
دفاع أمامي، فالمسلم الذي يحافظ على صلاة الضحى مثلاً لا يجرؤ الشيطان أن يحدثه أن
يترك فريضة الظهر
والسنة بالإضافة
إلى هذه المعاني هي أيضاً عامل توازن في حياة المسلم فالمسلم يقول: من السنة أن
أزور أخي فلان، من السنة أن أذهب إلى المقبرة ، من السنة أن أقوم وأفعل كذا...فهي
عامل توزيع للوقت وللجهد وللاهتمام بين أشياء خيرة كثيرة وهذه الأشياء الخيرة تؤدي
إلى اعتدال الشخصية وتوازنها
وما يكمل قضية
السنة في نظري، البعد عن التشدد، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلك
المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون" أي هؤلاء الذين يتشددون بغير موضع
الشدة
قصة: ورد في
الحديث أن سلمان الفارسي رضي الله عنه ذهب إلى أبي الدرداء رضي الله عنه وزاره
وأراد أن يبيت عنده ليلة ورأى أم الدرداء وإذ بها مرأة متبذَِلة (أي غير مهتمة بأي
شيء من هندامها) فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا،
فجاء أبو الدرداء ووضع طعاماً لسلمان ليأكل وقال له : كل يا سلمان فإني صائم، فقال
له سلمان: ما أنا بآكل حتى تأكل..فأكل..
فلما كان الليل
ذهب أبو الدرداء يقوم قال سلمان: نم....فنام، ثم ذهب يقوم، فقال له سلمان: نم،
فلما كان آخر الليل، قال سلمان قم الآن فصليا، فقال له : سلمان: إن لربك عليك حقا،
ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه...
فبلغت مقالة سلمان
رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: صدق سلمان
وقد جاء ثلاثة رهط
إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي فلما أخبروا كأنهم
تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، قال
أحدهم: أنا أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال
آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً...فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
أنتم الذين قلتم كذا وكذا...أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكنني أصوم
وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني..
ملاحظة: التوازن يحتاج إلى استعادة مستمرة، وأنا
أشبه الذي يحرص على التوازن الدقيق في حياته بالذي يسير على حبل مشدود فهو لا
يستطيع أن يقول: الحمد لله وضعت قدمي على الحبل وانتهيت...
التوازن بين الفلاح والنجاح
غالباً الفلاح هو
الفوز الأخروي المرتبط بالطاعة والعبادة والتقرب من الله تعالى
ونطلق غالباً كلمة
النجاح على الفوز الدنيوي
ولو عدنا إلى
التاريخ قليلاً ما قبل 50 سنة لوجدنا أن فكرة النجاح في الأمة بشكل عام كانت ضعيفة
وفكرة الصلاح كانت أقوى..
وطبعاً هذا خلل،
فالمسلم الذي يستدين ويأكلن يوجد خلل في شخصيته...الخ من الأمثلة
لكن الآن هناك
توجه قوي لدى الشباب وفي حس الأمة وفي ضميرها وفي البنية العميقة لشخصياتنا هناك
الآن توجه شديد إلى التساؤل عن: كيف ننجح وكيف نتفوق وكيف وكيف...؟ وفكرة الصلاح
والفلاح صارت تتراجع لدى كثير من الناس وهذا من آثار العولمة وهي من تسربات
الثقافة الغربية إلى ثقافتنا وإلى وعينا،إن وعي الأمة الآن يحتل شيئاً فشيئاً
بالمفاهيم الغربية التي تجافي البنية العميقة لثقافتنا الإسلامية
إن أمة الإسلام
بحاجة إلى أكبر عدد ممكن من الناجحين ولكن، كل نجاح دنيوي لا يساعدك على الفوز
الأخروي هو نجاح مؤقت ولو تم بطرق مشروعة وكل نجاح يتم بطريق غير مشروع هو وهم
فيا أيها الحريصون
على النجاح لا تنسوا الفلاح ولا تنسوا النجاح الذي يوصلكم ويساعدكم على الفلاح
ويا أيها المغرقون
في الأعمال الصالحة والمخفقون في دنياهم .اتقوا الله....وهناك قاعدة جميلة:
كل مسلم لا يستطيع
حل مشكلاته الخاصة يتحول هو إلى مشكلة اجتماعية
هناك أشخاص كثيرون
يهتمون بالعلم اهتماماً فائقاً، لكن حين نأتي إلى التطبيق العملي نرى هذ الشخص
نموذجاً لإنسان لم ينفعه الله بعلمه...وهناك من يعتبر نفسه جندي تنفيذ..يقول
لك:اؤمرني حتى أعمل فقط!!ولذلك هذا الصنف من الناس كثير الحركة قليل البركة يعمل
كثيراً وينتج قليلاً لأنه يعمل على غير هدى ولا يعرف شيئاً اسمة (اقتصاد العمل)
أو(الفاعلية) أو (الإنتاجية الممتازة) لأنه لا يقرأ ولا يتعلم!
ومع ذلك تجد
أشخاصاً كثيرين يقولون لك: يا أخي كفانا تنظيراً!
فإذن لا بد من
التوازن..إذا أدى الإنسان الواجبات وترك المحرمات والتزم بأكبر قدر ممكن من الآداب
والسنن فقد قام بواجب العمل ومهما صرف بعد ذلك من وقته في العلم والفهم والمعرفة والتحليل
والتنظير والمذاكرة ومتابعة الأخبار العلمية لا يكون مسرفاً...
إن الروح هي مكمن
الإنسان والمشاعر هي الوجود الحقيقي للإنسان ولذلك حتى يصبح الإنسان مفكراً أو
يصبح من الذين يفكرون بطريقة صحيحة فإن بحاجة إلى تعلم لأن هذا شيء مكتسب لكن لا
يحتاج أحد ليتعلم كيف يفرح، كيف يحب، كيف يغضب...الخ
المجال الروحي
شديد الجاذبية فلما يدخله الشخص بعمق يصرفه عن كل شيء، ولذلك على الذين يدخلون هذا
المجال أن يحذروا من الانجذاب بقوة إلى أعماق هذا المجال ، لأنه لشدة جاذبيته قد
يحرف عن السنة والبعض ارتكب مخالفات شرعية حقيقية أخرجتهم عن دائرة الإسلام
والمجال العقلي
والفكري بطبيعته جاف ، والمطلوب من هؤلاء أن لا ينسوا الجانب الروحي وأن لا يظنوا
أن مزيداً من التنظير ينعش أرواحهم أو يجعلهم متوازنين
الروح هي مصدر
الطاقة ومصدر السعادة ومكمن السعادة
العقل والعلم
للتنظير والتخطيط ولا تستطيع أن تستبين الطريق الصحيح بدون علم وبدون تفكير
لكن تخطيطاً
كثيراً بدون طاقة محركة لا تستفيد منه شيئاً...ومن أين تأتي الطاقة المحركة؟؟
الطاقة المحركة
موجودة في المجال الروحي ، فهذا الصحابي عمير بن الحمام رضي الله عنه
قال:"لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة"...فرمى بما كان
معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قاتل...
وإن القعقاع رضي
الله عنه كان يقاتل وحين يهدأ القتال ويلجؤون إلى الراحة لا يستطيع فك يده عن مقبض
السيف إلا أن يضعوا عليها شيئاً من الماء الساخن فترتخي....ما هي الحالة الروحية
التي تجعل الإنسان يقاتل ساعات متوالية إلى درجة أن تتيبس يده على السيف؟؟؟إذاً لا
بد من التوازن بين العقل والروح وأن نعلم
لا عواطف في اتخاذ
القرارات، لكن عندما نأتي إلى التنفيذ.... بدون عواطف وروح وبدون حماسة وحمية وشفف
لا نستطيع أن ننجز شيئاً
هناك المجتمعات
التي تسيطر عليها ثقافة الأمية وهي الثقافة التي يتناقل فيها الناس المعلومات عن
طريق السماع وليس عن طريق القراءة، في هذه المجتمعات يعطى للعقل دور أكبر من العلم
، ويعطى قدراً أكبر من حقه ، والعقل المجرد في التفاصيل الدقيقة الذي لم يتعلم
صاحبه ولم يتثقف ولم يكتسب الخبرات ليس له عمل، فهو يعطي أحكاماً عامة فقط، لكن في
التفاصيل الدقيقة الدور للعلم،
هل تعرفون أن
العقل لا يستطيع أن يميز بين المهم وغير المهم دائماً ولايستطيع أن يميز بين الخطر
والآمن دائماً، فإذاً كثير من الناس يعطون للعقل دوراً في مقابل المعرفة ولكنه دور
مشوه،فيظنون أنه من خلال التأمل والتخيل يستطيع العقل أن يحل كل المشكلات والذي
ثبت أن هذا غير صحيح وأن العلم والمعرفة والخبرة في التفاصيل الدقيقة وفي الجزئيات
وفي الأمور الجديدة أهم من المبادئ العقلية العامة، في المقابل هناك أشخاص هم
أوعية علم ولديهم معلومات لكن لا يستخدم أحدهم عقله في هذه المعلومات...إن نقل
المعلومات وجمعها من غير إعمال العقل فيها يقلبها أحياناً إلى وسيلة اضطراب وتناقض
ويتضارب بعضها ببعض ، لذلك لا بد أن نتعلم بطريقة صحيحة.
التوازن بين دائرة الاهتمام ودائرة التأثير
مثلاً...أنا أهتم
بوضع المسلمين في إندونيسياونهتم بفلسطين....وأما دائرة التأثير هي الدائرة التي
أبذل فيها جهداً يؤدي إلى نتائج محددة
فالعاقل يعطي معظم
جهده وإمكاناته لدوائر التأثر لأن الاستثمار في دائرة التأثير يأتي بنتيجة، ويعطي
شيئاً من وقته لدائرة الاهتمام
فالمشغولون بدوائر
الاهتمام عليهم أن يعودوا إلى دوائر التأثير ليعطوها جل وقتهم وجهدهم
والذين لا يعرفون
شيئاً عما يجري حولهم لا من قريب ولا من بعيد عليهم أن يخرجوا قليلاً من دائرة
التأثير إلى دائرة الاهتمام
التوازن في النظر إلى الأمور
بعض الناس تذكر
السلبيات فقط وكأن الدنيا مقلوبة رأساً على عقب
وبعض الناس يذكرون
الإيجابيات فقط يقول: نحن بخير، الأمة بخير
لا هذا بصحيح ولا
هذا بصحيح
إذاً لا بد من
رؤية متوازنة للإيجابيات والسلبيات والخير المحض نادر والشر المحض نادر وقال
علماؤنا: ما خلق الله خيراً محضاً إلا الجنة وما خلق شراً محضاً إلا النار
التوازن بين الماضي والحاضر
كثير من الناس هو
أسير للماضي بكل ما تعنيه الكلمة ويقرأ الماضي قراءة مشوهة لأنه لا يملك الأدوات
التي تمكنه من قراءة التاريخ وفهمه
ليتنا اتبعنا
المنهج القرآني الذي لا يخوض بالتفاصيل إلا نادراً ولا يذكر لك أسماء كثيرة
وتواريخ محددة لأن القصد من سوق التاريخ هو أخذ العظة والعبرة، وليس لأن نجعله
عامل انقسام وكثيراً ما يختلف الناس حول قضية تاريخية ذهبت وليس من الممكن
استرجاعها،وتهمل الحاضر...كيف نقتبس من الماضي ما نصلح به الحاضر ؟؟؟
هذا هو السؤال
وهذا هو التحدي....يجب علينا أن نعطي 20% من وقتنا وجهدنا للتاريخ ونعطي الباقي
للحاضر
يقول تعالى: (تلك
أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) البقرة:134
أرجو لكم الفائدة