سلسلة : (( نسمات الأمل )) --------------------------------------------
[ حتى إذا استيأس الرسلُ.. وظنوا أنهم قد كُذِبوا.. جاءهم نصرُنا... ]
كثيرًا ما نشعر باليأس يُحاصرنا.. ويورثنا وهنًا يكاد يقضي على ما بقي من همةٍ وحماس.. فيمكث أحدُنا يُناجي نفسَه :
* هل من جدوى لما نقوم به..؟! ..
* أتُرى هذه الجهود الذي تُبذل تأتي بنفع؟! ..
* هل ستثمر غراسنا وقد اجتاحنا الطوفان؟!..
أسئلة لا تكاد تنقضي.. ولا يزيدها الواقع المر إلا إلحاحًا وإصرارًا.. ولربما كان ورودها المتكرر سببًا من أسباب القعود والخمول والدعة.. أو - يا للضعف - سببًا من أسباب الانتكاس والارتكاس..!
يأتي الشيطان ليقول لأحدنا [ ... لا يضركم من ضل إذا اهتديتم..] كلمة حقٍ أُريد بها باطل.. لكن النفس قد تُخدع بها إذا قيلت والواقع يجعل الحليم حيرانًا..!
وتتكرر الأسئلة..
وتُدركنا رحمة الله.. فيأتي الجواب بظلال اليقين..
يأتي في حالة خشوعٍ وتأمل في آية من كتاب الله، أو حديثٍ من سنة رسول الله..
أو يأتي على شكل موقفٍ عابر.. أو قصةٍ واقعية.. أو حدثٍ مُشاهد..
وييسر الله – بمنته وكرمه – للقلوب الواجفة ما يُسكنها ويمدها بماء الأمل الذي لا ينضب ولا يغور..!
فتثوب النفس القلقة إلى مثابة اليقين والاطمئنان بموعود الله .. وتستحضر الحقيقة التي قد تتوارى خلف ركام اليأس :
أن الدين منصورٌ لا محالة.. وأن علينا بذل الجهد وغرس البذور؛ أما قطف الثمرة اليانعة فهي بيد علام الغيوب..!
هكذا هو الإسلام بروعته وعظمته.. يتأبى على السُبات.. ويستعصي على البيات.. ويكمنُ في الفطر السوية؛ حتى إذا ما قيض الله له مَن يُزيح عنه الغبار؛ انتفض حيًا يتنفس..!
هو باقٍ إلى قيام الساعة.. لا خوف عليه من الفناء.. وإنما الخوف علينا من الركون إلى الدعة أو الإخلاد إلى الأرض..
وإنما الشرف - كل الشرف - لمن يستمسك بالدين ويحمل مشاعل الهداية..!
(( نسمات الأمل )) ..
سلسلةٌ من بعض المواقف والقصص الواقعية.. التي مررتُ بها في هذه الحياة.. أو وقفتُ عليها من ثقات.. وأنا أسوقها للإخوة والأخوات تثبيتًا لهم وتذكيرًا..
(( نسمات الأمل )) ..
هي للمستيقن.. حتى يزداد يقينًا..
ولليائس.. حتى يعلم أن اليأس لا يصنع شيئًا..
وللجميع.. حتى يعلموا أن مع العُسر يُسرًا..
-----------منقول --------------------
منارة صدق.. على شواطئ مارسيليا
..
شيخٌ فانٍ.. قدمٌ في الدنيا، والأخرى في القبر..!
هكذا بدا لي حين رأيتُه البارحة.. وهذا ما تنطق به الأخاديدُ التي شقتها سنواتُ عمره التسعون على صفحات وجهه، وهي الصورةُ التي يختصرُها بياض عارضيه..
لكن الزمان والمكان يفقدان أبعادهما في قاموس ( الهمة العالية ) .. وتزول كل حواجزهما أمام تدفق الحماس، النابع من ( عقيدة ) لا يوهنُها كبرٌ ، ولا يعوقها مكان..
وبعد العشاء.. دعا الشيخُ الكبيرُ ( عبدالرحمن الماص ) بعصاه وكرسيه.. فجلس، وأحاط به أحفادُه وبعضُ الحاضرين.. كما يحيطُ الغمام بقمةٍ شامخة.. هي للغمام ملاذ، وهو للقمةٍ جمال..!
ثم طفق النصحُ والتوجيه ينساب من بين شفتيه انسيابَ الماء من فم السِقاء..
تارةً يجعله على هيئة قصة، وتارةً يُلبسه ثوبَ دُعابة.. وهو في ذلك كله يحدثنا بحروفٍ يكاد الصدق والحب يُطل من بين أصواتها..!
حتى أتى الحديثُ على موضوع الصدق مع الله، وإخلاص القصد له – جل جلاله - .. فاستحالت تلك الحروفُ إلى نورٍ مُجللٍ بأطياف الهيبة والإخبات والخشوع..!
* * * * * *
قال الشيخ ( عبدالرحمن الماص ) بعد مقدمة من التأصيل والاستدلال :
كُنّا عشرة رجال.. ما فيهم عربيٌ إلا أنا.. سافرنا إلى فرنسا يومَ لم يكن في فرنسا مسجدٌ واحد.. فذُهلنا من انكفاء المسلمين على أنفسهم، وعجزهم – على كثرتهم - عن أداء الصلاة جماعةً، فضلا عن الدعوة إلى الإسلام..
ولأن أغلب المسلمين هُناك من العرب، من المغرب العربي، ومن بلاد الشام.. فكان لزامًا عليّ أن أتولى البيان والكلام أمام المسلمين هُناك.. لكننا توقفنا أمام عقبةٍ كؤود : كيف نجمع أكبر عددٍ من المسلمين في مكانٍ واحد..؟!
وبدا الحل في ظاهره ميسورًا : إنها المساجد..
ولكن المساجد معدومةٌ تمامًا.. ووالله لقد طُفنا في أرجاء باريس، باحثين عن مسجدٍ مُقام لنقوم بواجب التذكير؛ فلم نجد..!
فاستعنّا بالله.. وقلتُ للإخوة بعد أن وصلنا إلى (مارسيليا) :
لا بد أن نبني هُنا مسجدًا..!
فما طال جدالُنا ولا نقاشنا..
بل اخترنا المكان، هناك على ربوةٍ جميلة، بالقربُ من مجمع المصانع المُحاذي للميناء.. لأن أغلب المسلمين هناك من عمال المصانع..
وبدأنا العمل، فاستخرجنا رخصة من البلدية.. وكنا نبني بأيدينا، وبأيدي الإخوة المسلمين، الذين كان بعضُهم يأتينا ليلاً بعد انتهاء دوامه في المصنع، فيواصل عملَ الليل بعمل النهار..!
كانت أيامًا معدودات.. هي في جمالها ولذتها كنسائم السحر في صحارى نجد..
فيها تكشفتْ الشدةُ عن النفوس المُحبة للخير وهي تتلألأ بعد نفض الغبار عنها.. وفيها الإيمان الكامن في الأعماق، يبقى كامنًا حتى تنزل عليه بضع قطراتٍ من التذكير، فيهتز، ويشق الركام كما تشقها الكمأةُ بعد المطر..!
* * * * * *
وذات صبحٍ..
أتاني أخٌ ( أذكر أنه من بلاد اليمن ) ، يشكو إلي أمرَه مع الصلاة.. وكيف أنه يعجز عن أداء صلاة الظهر وصلاة العصر وصلاة المغرب في أوقاتها.. لأن نظام المصنع يُجبره على البقاء أمام الآلة لئلا تتعطل أو تقف.. إلا في حال قضاء الحاجة، ولدقائق يسيرة.. ووقت الغداء قصيرٌ جدًا.. لا يكاد يكفي للطعام..!
وهو بهذا مُجبرٌ على جمع الصلوات كلها مع صلاة العشاء..!
فقلتُ له :
** " .. يا أخي.. من صدق اللهَ؛ صدقه اللهُ – سبحانه - .. فإذا أتى الغد، فاحمل دواتك وفيها ماء الوضوء.. فإذا زالت الشمسُ، فقم وتوضأ، ثم أذن بالصلاة وارفع صوتك بالإقامة.. ثم صلِّ الظهر.. وافعل ذلك في باقي الصلوات.. ولا تخشَ شيئًا مادمتُ صادقًا مع من له الخلقُ والأمر.. "
فشرح الله صدرَ الأخ السائل لما قلتُ له، وقام من عندي وبريقُ العزم والإصرار يلوح على عينيه..
* * * * * *
وبعد أيام..
جاءني الأخ السائلُ نفسه.. وأمارات البِشر والرضا باديةٌ على محيّاه.. وهو يهتفُ من بعيد :
** " .... أبشر يا شيخ.. أبشر..؟! "
** " ... بشرك الله بالجنة.. ما وراءك..؟! ..."
وبعد أيام..
جاءني الأخ السائلُ نفسه.. وأمارات البِشر والرضا باديةٌ على محيّاه.. وهو يهتفُ من بعيد :
** " .... أبشر يا شيخ.. أبشر..؟! "
** " ... بشرك الله بالجنة.. ما وراءك..؟! ..."
قال، وعبرتُه تسبق كلماته :
** " .... أرأيتَ ما قلتَ لي تلك الليلة.. لقد استعنت بالله، وعقدتُ العزم على فعل ما اقترحتَ عليّ..
فذهبتُ باكرًا ومعي لوازم الوضوء وسجادةُ الصلاة.. فلما حان وقتُ الظهر.. توضأتُ، ثم أذنت بالصلاة، ويممت وجهي صوب القبلة، فكبرت.. وما كدتُ أفعل حتى كان مأمور تلك الوردية على رأسي ينتهرني ويُهددني..
فما شعرتُ والله له بهيبةٍ ولا برهبة.. بل مضيت في صلاتي أؤديها بخشوعٍ وراحةٍ ما أحسستُ بها من قبل أبدًا.. ولما قُضيت الصلاة؛ قلتُ له بلهجة الواثق : إن هذا أمرُ ربي الذي خلقني وخلقم وخلق صاحب المصنع، وجعل لصلاة المسلمين زمانًا موقوتًا.. وأنا أمتثل أمرَه.. فافعل ما بدا لك..!
فأخذ وهو يزبد ويرعد.. ويتوعدني بأن يرفع أمري إلى صاحب المصنع ليوقفني عند حدي.. فما رأيته قد أكثر من الهذر، قلتُ له :
(إن تتطردوني؛ فسيعوضني الله خيرًا مما عندكم في الدنيا.. وأما الآخرة ففيها الرجاءُ بالأجر والرفعة.. والآخرة خيرٌ وأبقى..!)
وما ألقيتُ لتهديده ولا لوعيده بالاً.. بل فعلتُ في العصر والمغرب كفعلي في الظهر.. والعمال المسلمون ينظرون إليّ ما بين مستنكرٍ ومُشفق.. ومتعاطفٌ..!
فلما كان من الغد.. وحان وقتُ الظهر.. ذهبتُ لأتهيأ للصلاة..
فلما كبرتُ فوجئتُ وفوجئ العمالُ بصفير التوقف عن العمل يدوي في المكان.. ثم ما كدتُ أنتهي من الصلاة إلا والمأمور واقفٌ يخبرني بأن هذه أوامرُ صاحب المصنع حين أخبره بما جرى بالأمس.. وأنه قال له بالحرف الواحد :
(... أبناء المسلمين هم أغلب عمال المصنع.. وهم مستمسكون بدينهم في الوقت الذي ضاع فيه أبناؤنا بين الحانات والمواخير.. فإذا ما طردناهم فمن الذي سيعمل لدينا..؟! ، فالحل في نظري أن تتركوهم وشأنهم، وإذا رأيتم ذاك [ يقصدني ] قام يُصلي، فأطلقوا صافرات التوقف، واجعلوها استراحة لعموم الموظفين..! )
وجاءت صلاة العصر، فصلى معي أربعةٌ من العمال المسلمين.. وفي المغرب عشرة..
وازداد العدد من غدٍ.. واليوم أتيتُك وما في العمال المسلمين واحدٌ إلا وهو يُصلي معنا.. في صفٍ واحدٍ كالبنيان المرصوص..! .... "
ثم أطرق الشيخ برأسه.. والعبراتُ تكاد تهز صدره العامر بالنور – نحسبه كذلك – هزًا..!
والحاضرون صامتون كأن على رؤوسهم الطير.. حتى رفع الشيخ رأسه.. وقال وهو يتبسم :
أتدرون.. أن في فرنسا اليوم خمسةَ آلاف مسجد..؟! .. "
* * * * * *
هذا حديثُ من جاوز التسعين..!
وتلك هي همتُه وهمُّه.. شاب فوداه ومازال قلبه شابًا بحب الخير للغير.. وبدلالة الناس إلى الهُدى.. ينطق بذلك حالُه، وتجهر بذلك أحاديثُه وحكاياتُه، ومزحُه ودعابتُه.. وهو يجتهد في أن تكون كل حركةٍ وسكنةٍ لله، عبادةً.. ونصحًا..!
وهي تجربة من رأى العمل والبذل خيرًا من الجدال والمراء..
فالشيخ ممن يُنسبون إلى جماعة ( التبليغ ) التي سيمت بألوانٍ من التشنيع الهادم والنقد الجارح.. وكان أهلُها غرضًا لبعض سهام أولئك الذين اكتفوا بالقيل والقال.. فلا هم كفّوا ألسنتهم عن أعراض إخوانهم العاملين للدين، ولا هم عدّلوا ( بالعمل ) ما يرونه من اعوجاجٍ لا يسلم منه بشر، ولا هم سدوا الثغور التي كُفيت بأمثال الباذلين الصادقين..!
[ فأما الزبدُ فيذهب جُفاءً.. وأما ما ينفعُ الناس فيمكث في الأرض..]
--------------------------------------منقول -----------------------------------------------