الإبــــداع الجـــادّ
هل نتفهم الإبداع كما ينبغي وهل نقدّم في سبيله ما ينبغي؟
إدوارد ديبونو
رائد دراسة وتعليم الإبداع العالمي ومبتكر منهجية التفكير الجانبي
على مدى أكثر من خمسةٍ وعشرين عاماً اشتغلتُ مع معامل الأبحاث في جامعات أوكسفورد وكامبريدج ولندن وهارفارد، وكذلك في أقسام الدراسات والتطوير لدى كبرى الشركات العالمية. وحين أسترجع ما رأيته آنئذٍ وما أراه الآن فإنّه يصدمني الخلل المريع في تفهّم الإبداع المنتشر في كل تلك الأماكن.
كثيرٌ من العلماء Scientists والمهندسين لا يبدؤون بتفهّم الإبداع وكيفية زيادة إبداعية الإنسان، وأحوال الفنانين في هذا المجال أشدّ سوءاً.
الإبداع.. كيف نصنعه دون أن نفهمه؟
كلّ فكرة إبداعية قيّمة لا بدّ من أن تبدو منطقيةً بالنظر إليها نظراً لاحقاً Hindsight. وهذا واضح، لأنّه ما لم يكن هناك تتبعٌ منطقي رجعيّ فمن أين لنا إدراك قيمة الفكرة؟.. ستكون عندئذٍ فكرةً "مجنونة" (يجب أن تبقى الفكرة مجنونةً إلى الأبد، أو إلى أن يتغيّر سياق النظر الأساسيّ Paradigm Change) وهكذا نعتقد أنّه إن كانت الأفكار الإبداعية تبدو منطقيةً لدى النظر إليها نظراً لاحقاً Hindsight، فإذاً كان من الممكن حتماً التوصّل إليها في المنظور السابق Foresight باتباعِ منطقٍ أفضل. لكن حالما نبدأ بتفهّم الإدراك Perception كنظام معلوماتٍ ذاتي التنظيم يقوم بتكوين تراتيب غير متناظرة Asymmetric Patterns فإنّه يغدو واضحاً أن الأفكار التي تبدو منطقيةً في المنظور اللاحق يمكن أن تكون غير مرئيةٍ في المنظور السابق.
تتيح لنا الفكاهة والتصوير الطريف تمثيلاً ممتازاً لفكرة عدم التناظر Asymmetry هذه. وبالفعل تعدّ الفكاهة أهمّ سلوكيات الدماغ البشريّ لأنّها تبيّن لنا أكثر من أيّ شيءٍ آخر نوعية نظام المعلومات الذي نقف إزاءه. يقول مثالنا الطريف: أمام النملة الواقفة على جذع شجرة فرصة 1/ 8000 للوصول إلى ورقةٍ معيّنة، ولكنّ نملةً تقف على تلك الورقة لديها فرصةٌ تساوي 1/1 للوصول إلى جذع الشجرة. وهكذا هي التراتيب غير المتناظرة Asymmetric Patterns.
يعتقدون بالكثير ويقومون بالكثير..
وكثيرٌ منه غير صحيح ولا يجدي!
من أين يأتي الإبداع؟
تعتقد كثرةٌ مفاجئةٌ من العلماء أن العلم Science يقوم على التجريب Experimentation وعلى تحليل المعطيات Data Analysis. وهذه النظرة غير الصحيحة يتمّ تشجيعها في مراحل التعليم المبكرة وفي الجامعات. العلم ليس كذلك، بل هو توليدٌ للفروض Hypotheses وللنماذج Models. وما التجريب وتحليل المعطيات سوى أدواتٍ تسخّر في خدمة الفروض. إنّ نجاح التفكير الغربيّ في العلم Science وفي التكنولوجيا كان وما يزال مديناً لنظام الاحتمال Possibility وليس لنظام التحليل Analysis، رغم لعب هذا الأخير دوره الملموس.
في العلم Science يعطينا الاحتمال الفروض Hypotheses، وفي التكنولوجيا يعطينا الرؤية. وبالرغم من ذلك لا نكادُ نلمح في مناهج التعليم محاولاتٍ جادةً لتعليم مهارات توليد الفروض الإبداعيّ Creative Hypothesizing.
تحليل المعطيات لن يولّد أفكاراً جديدةً أبداً، لأن العقل لا يرى حينئذٍ إلّا ما يعّد لرؤيته. إن تحليل المعطيات قد يتيح لنا الاختيار من خزّان أفكارنا القياسية، وهو أمرٌ مفيد، لكن لا يمكننا أبداً أن نرى فكرةً جديدةً ما لم نعدّ عقلنا لرؤيتها من خلال وضع فرض Hypotheses أو تخمين Guess. وهذا كله تابعٌ مباشرةٌ لطبيعة الشبكات العصبية المولّدة للأنماط Pattern-Forming.
عندما لا يعتقد العلماء بأن الأفكار ستأتي من تحليل المعطيات، فإنّهم يستندون على الاكتشاف الاتفاقيّ Serendipity أو الحظّ Chance. عبر هذه الوسيلة كانت الأفكار الجديدة تنبع بين الفينة والأخرى وعبر هذه الوسيلة سوف تستمرّ في هذا التدفق دون شك.
يقال إنّ الطبق الشائع من لحم أحد الحيوانات المشويّ اكتشف منذ زمنٍ بعيد جدّاً في الصين عندما احترقَ معبدٌ كان بداخله ذلك الحيوان. وبالرغم من أنّ حادثة الشواء بهذه الطريقة ستبقى تحدث بين حينٍ وآخر فإنّه يبقى بإمكاننا اتخاذ طريقٍ أكثر مباشرةً إلى ذاك الطبق من اللحم المشويّ. وعلى النحو ذاته يمكننا أيضاً أن نتبع أسلوباً أكثر مباشرةً نحو الإبداع بدلاً من مجرّد انتظار هطول الأفكار.
تحرير المراسي لا يكفي.. لا بد من تعلّم الإبحار!
لسوء الحظ، فإنّ الأسلوب التقليديّ والدارج حتّى الآن (زمن كتابة هذه المقالة في التسعينات) في أمريكا الشمالية كان وما يزال يسدي للإبداع ضرراً فادحاً. تخيّل مواطناً عادياً موثقاً بالقيود إيثاقاً لا فكاك منه، ثم تتقدّم نحوه بكل لطف لتقدم له قيثارةً. ماذا سيحدث؟ طبعاً لن يستطيع أن يعزف! لن يفعل ذلك حتّى نكسر القيد.
يبدو تقديم القيثارة للمقيّد عملاً مغفلاً عديم الجدوى، ولكنّ هذا هو بالضبط الموقف الذي نتخذه إزاء الإبداع، نقول: إن كنت مكبّلاً مثبّطاً فلا يمكنك أن تبدع. ولكنّ فك القيد وحسب لا يكفي لجعل الرجل يعزف يا سادة!
ومع ذلك فإنّ العصف الذهني التقليديّ Brainstorming وكثيرٌ من الأساليب الدارجة حالياً تعتقد بانّ تحرير الناس من قيودهم يكفي لتوليد الإبداع. إنّ هذا لمسلكٌ ضعيفٌ حقاً. فكما أنّ ذلك الشخص في مثالنا يحتاج إلى تعلّم مهارات العزف على القيثارة فكذلك نحن نحتاج إلى تعلّم مهارات الإبداع.
الإبداع غير طبيعي. دماغنا غير مصمّم ليكون مبدعاً، ولو أنه كان كذلك لكانت الحياة مستحيلة.
إنّ تفوّق الدماغ يكمن في مقدرته على توليد واستخدام الأنماط Patterns التي يقرّرها سياق خبراتنا المتسلسلة. بين الحين والآخر تبدي إبداعية البراءة فائدتها عندما تُتناول المشكلة الجديدة تناولاً بكراً Fresh لا لشيءٍ إلاّ لأنّ المفكر البريء لا علم لديه بطريقةٍ مألوفة. لكن على الأغلب يتوجّب علينا في الوقت نفسه استخدام الأنماط المتسلسلة Patterns وكذلك الهروب منها. عندئذٍ تدخل الميدان تقنيات التفكير الجانبيّ الأساسية.
لعبة الإبداع..هل تجد من يتبنّاها ويعلّمها ويتعلّمها؟
أم هي متروكةٌ تلتقط التقاطاً!
المدرسة قناة ينبغي على كل اليافعين المرور فيها. الصغار الأكثر ذكاءً سيتعلّمون بسرعة اللعبة اللازم إتقانها في المدرسة: كيف ترضي المعلمة، كيف تجتاز الامتحان، وكيف تنسخُ وتقلّد عند اللزوم.. وهكذا تترك الإبداعية للمتمرّدين الذين لا يستطيعون ممارسة اللعبة أو لا يريدون ممارستها.هذا هو فهمنا الاجتماعي العام للإبداعيّة.
لكن حالما نفهم لعبة الإبداعية، فإنّ المسايرين للعبة يمكن أن يصبحوا أكثر إبداعيةً بكثير من المتمرّدين لأنّ هؤلاء المسايرين سيكونون أفضل في تعلّم هذه اللعبة الجديدة. وبالطبع لا بدّ من أن يتوفّر لدى المسايرين الاندفاع المحرّك لتعلّم هذه اللعبة الجديدة. ومثلما اعتنق اليابانيون بكل جديّة لعبة الجودة Quality فإنّنا نراهم يبدؤون باعتناق هذه اللعبة بجدية أيضاً.
للإبداع الجادّ أدواته فهل نتعلّمها؟
وله أبوابه الصحيحة فهل نطرقها؟
إن أدوات التفكير الجانبي الأساسية وتقنياته المتراوحة بين "التحريض Provocation" وبين "كلمة التحدّي والدفع والتحويل PO" وبين "الإدخال العشوائي Random Entry" تستند مباشرةً إلى سلوك أنظمة توليد الأنماط المتسلسلة المنظّمة ذاتياً Behavior Of Self-Organizing Patterning Systems.
مثلاً: في نظام معلومات تقليدي غير فاعل Passive سيكون استخدام مثيرٍ عشوائي أمراً عديم الجدوى. لكن في أنظمة توليد الأنماط يصبح المثير العشوائي أمراً منطقياً تماماً لأنّه يتيح دخولاً جانبياً إلى مسارٍ لم يكن ممكناً أبداً الدخول إليه بالاستمرار في الاتجاه المركزيّ.
والتوصيف الإمبريقي "التجريبيّ" Empirical Description للإبداعية ولكيفية توصّل البشر إلى أفكارهم هو كذلك طريقٌ مسدود. إن توصيف العملية Process لا يميط اللثام عن النموذج الأساسي Underlying Model، وفقط من خلال تفهّم هذا النموذج الأساسيّ سنغدو قادرين على ابتكار أدواتٍ إبداعية عملية.
نعرف الآن أنه هناك ضرورة مثبتةٌ رياضياً للتحريض Provocation في أيّ منظومةٍ ذاتية التنظيم Self-Organizing System. ولكن كم يبلغ الناس الذين يعرفون كيفية استخدام التحريض استخداماً مدروساَ؟
في عام1970 اقترحت في اجتماعٍ مع مسؤولين وعاملين من شركة شل أن تُحفرَ آبار البترول بميلٍ جانبيّ وليس حفراً عمودياً مباشراً. واليوم فإنّ معظم الآبار تحفر بهذا الشكل لأنّ المستخلص من حقل البترول سيكون أكبر وبعدد أقل من الآبار.
إنّ إلهام الناس أن يكونوا مبدعين هو أيضاً مضيعةٌ للوقت. يمكن للمرء تقديم خطاب تحميسيّ ملهم، ولكن تأثيره سرعان ما يتلاشى خلال أسبوع. لكن إن أريت الناس كيف يمكنهم استخدام أدوات التفكير الجانبيّ استخداماً منظومياً أساسياً فعندئذٍ سيصبحون متحفّزين لأن يكونوا إبداعيين ويبدؤون في بناء مهارتهم الإبداعية. ليس هناك سرٌ عجائبي خفي للإبداع، الإبداع هو تناول المعلومات ضمن نظامٍ مولّد للأنماط المتسلسلة Patterns.
طلب مني مرةً إدارةُ اجتماعٍ للفيزيائيين الحائزين على جائزة نوبل. ومن بين اولئك الحضور كان واحدٌ وحسب قد حصل على الجائزة بسبب التحليل المنظوميّ Systemic Analysis.
في البداية كانوا مشكّكين بأدوات التفكير الجانبيّ التي كنت أعلّمها لهم، ولكنّهم في النهاية صاروا متحمّسين لها وأقرّوا بفاعلية تلك الأدوات في توليد أفكارٍ جديدة.
بما أنّ المقدرات الخاصة والتكنولوجيا أصبحت سلعاً، فإنّ الشيء الوحيد الذي سيحدث فرقاً مميزاً بين المؤسسات المختلفة في المستقبل هو الإبداعية. يجب أن نعتنق الإبداعية اعتناقاً جاداً، لا مناص من ذلك.
يجب أن لا يقلّ إنفاقنا المباشر على الإبداع عن عشرة بالمئة مما ننفقه على الأبحاث من أي نوع، ولا تكاد توجد منظمة واحدة تقوم بذلك. وكذلك يجب أن ننظر إلى ما وراء الإبداعية التقليدية البرّاقة إلى الإبداعية الجادّة، فلسوء الحظ يزعم كثير من المنظمات أنها منظمات إبداعية وهي ليست كذلك.
مؤخراً أجريت مسحاً شمل قادةً تنفيذيين متنوعين في أوربا وأمريكا. كان تسعون بالمئة منهم يعتقدون أنّ على منظماتهم أن تقوم أكثر بكثير جداً بشأن الإبداعية. وتسعةٌ بالمئة كانوا يرون أنّ أمامها المزيد لتفعله، وواحدٌ في المئة وحسب كانوا يرون أنّها تقوم بما يكفي القيام به في شأن الإبداعية. وفي الوقت ذاته كان خمسةٌ وثمانون في المئة يعتقدون بأن الإبداعية عنصر جوهريّ في عملهم.