أطلق إبداعك بالتفكير داخل الصندوق
مارك ماغينيس
شاعر، ومدرّب وكاتب إبداعي.
إليك تجربة التفكّر الصغيرة هذه:
أحضر ساعة توقيت ذات مؤشر للثواني، وبعد قراءة الطلب التالي لديك ثلاثون ثانية وحسب للخروج بنتيجة:
- فكّر واكتب قصة! تك تك تك تك تك تك تك...
انتهت الثواني الثلاثون. فكيف كان الأمر؟ سهلاً أم صعباً؟ أكنت مسروراً فخوراً بالقصة التي ابتكرتها؟..
إليك تجربة ثانيةً للخروج بأفضل قصةٍ ممكنة لديك بشرط الثلاثين ثانية نفسه:
- فكّر بقصةٍ عن لصّين. تك تك تك تك تك تك ....
كيف وجدت الأمر الآن؟ أسهل أم أصعب؟
وإلى التجربة الثالثة وبالشرط السابق ذاته:
ابتكر قصةً عن لصين. لصين شقيقين لم يفترقا في حياتهما يوماً. لكن! كان أحدهما يخفي عن الآخر سراً، والآن ضاق صدره وأصبح الكتمان شاقاً لا يكاد يحتمل. أخذ الذعر يملأ صاحب السر وهو يرى كتمانه السرّ يشوّش تشويشاً خطيراً على عملهما، ففي مهمّتهما الأخيرة أوشكا على الوقوع في قبضة الشرطة بسبب ما وقع فيه من خطأ. ولكنه في الوقت ذاته يمتلئ رعباً عندما يفكر في احتمال تدمير الرابطة بينهما إن باح لأخيه وصديقه بالسر...
كيف صار الأمر الآن؟ أسهل من المرات السابقة أم أصعب؟..
تفاصيل.. تفاصيل..
الإبداع يكمن في التفاصيل!
عندما أجريتُ نشاط التجارب السابق مع مجموعة كان خروج دلاء الناس فارغةً ورسمهم لوحاتٍ خاليةً في التجربة الأولى أمراً شائعاً جداً. مثل الصورة التقليدية للأديب الموهوب الذي يكبّله قحط الإلهام كانوا يتجمّدون محملقين في الصفحة الفارغة أمامهم.
إنّ "حريّة الإبداع المنطلقة" التي ينظر إليها نظرةً إيجابيةً على العموم لم تكن عاملاً إيجابياً في تجربتنا، ورأينا كيف أنّ منح الناس الحرية المطلقة لكتابة أيّة قصّة كان يجمّدهم تجميداً. وحتى لو أفلحوا في إيجاد ما يكتبون عنه فإنّ الثلاثين ثانيةً لا تكفي لتطوير ما يخرجون به من أفكار إلى شيءٍ ذي قيمة وهكذا نرى القصص -إن خرجت- تخرج عاديةً أو أقل من عاديّة.
في التجربة الثانية كانت النتائج أفضل على العموم. أجل، قد لا نحب اللصوص ولكنّ أساليب حياتهم مثيرة شائقة. إنّهم يحرّكون فينا كثيراً من المشاعر والتداعيات، وبتذكر اللصوص تتداعى إلى أذهاننا شخصيات ومواقف كثيرة رأيناها في الأفلام أو قرأنا عنها في الكتب والصحف. أين يعيشون؟ ماذا يسرقون؟ من ضحاياهم المفضّلون؟ هل هم محتالون أو منحرفون صغار أم هم أدمغةٌ إجرامية استثنائية؟..
فجأةً نرى كتابات أدب الجريمة كلّها تمتدّ أمامنا كي نقتطف منها ونركّب ونبتكر. وحقيقةُ وجود لصين اثنين تفتح أمامنا كل الاحتمالات الدراميّة. لماذا كانا يعملان معاً؟ أكانا عضوين في عصابةٍ واحدة؟ هل لديهما مهاراتٌ متكاملة؟ هل يحب كل منهما الآخر أم امتلاءا بالسآمة والكره بعد رحلة إجرام طويلة؟ حياةُ الجريمة حافلةُ بالتوتّر والشدّة وقد خاضا نزاعاتٍ عديدة، لا ريب في ذلك...
وأمّا التجربة الثالثة فقد كانت الأفضل دون ريب. بالإضافة إلى كل الإلهامات الدرامية التي يوحيها أدب الجريمة، فإنّ كونهما شقيقين يستدعي فينا كل ما نعرفه أو نختبره شخصياً من تفاعلات علاقة الأخوّة. وهكذا نستحضر ذلك التوتّر الدراميّ في تفاعلات التعاطف والتنافس المختلطة بين الأشقّاء. ثمّ، نعرف جميعاً ما يعنيه كتمان السر، والخشية الدائمة من اطلاع الآخرين عليه.
وهكذا تتدفق الأسئلة وتنفتح الدروب: ما كان ذلك السر؟ كيف أفلح في إخفائه عن أخيه وصديقه وشريكه كل تلك المدة؟ لمّ أصبح ذلك السر مشكلةً الآن؟ ومتى لم يكن كذلك؟ كيف يؤثّر على علاقة الأخوين اللصين؟ وعلى عملهما؟ وهل يرتاب اللصّ الآخر بأخيه؟ أتراه يدري بالأمر الآن؟ ماذا حدث في عملية السطو الأخيرة؟ وكيف سيظهر السر للعلن؟ سيعترف الأخ أم يُكشف الأمر كشفاً؟ وماذا سيحدث عندئذ؟..
وهكذا يتبيّن أن المزيد من التفاصيل المقدمة لك يعني مزيداً من شرارات الصور والأفكار تنقدح في ذهنك ويعني مزيداً من السهولة في الخروج بالقصة. ستبدأ القصة بكتابة نفسها بنفسها: التفاصيل تولّد أسئلة والأسئلة تولّد إجابات والإجابات تولّد صوراً وشخصيات ومواقف..
القضية هي أنّ كل تفصيل يقدّم في السؤال المطلوب يستبعد جزءاً من حرية إبداعك. أتحب أن تكتب عن اثنين يعملان في تنظيف النوافذ؟ معذرة! لا نريد ذلك، لم لا تكتب لنا عن إخوة وأخوات وحسب؟.. صعبة؟ وماذا لو أردنا منك الكتابة عن أخوين ليس بينهما ما يخفى أبداً؟ أجل..أصعب وأصعب!
رائعةٌ هي القيود..
تحرّر الإبداع من الجمود
رأينا في مقالة "التفكير خارج الصندوق ليس حلّاً.. " (المنشورة في عدد يونيو 2010) أنّ التفكير خارج الصندوق ليس ضمانةً لتحصيل الإلهام المطلوب، وكيف أن تجارب التفكير المنفذة تشير إلى أنّه من الأيسر في بعض الأحيان تحقيق التفكير الإبداعي من خلال التفكير داخل الصندوق المكوّن من التفاصيل والحدود.
وإذاً هل يمكن القول بأنّ حريّة الإبداع تتلقّى قدراً مبالغاً فيه من القيمة والاعتمادية؟
على هذا السؤال يجيب المبدع إيرني شنيك بـِ أجل كبيرة!
بوصفه مخرجاً مبدعاً مرشحاً لجائزة إيمي، ومستنداً إلى ذخيرة محترمةٍ من الحملات الإعلانية الناجحة فإنّه يعرف شيئاً عن الإبداع يجدر الإصغاء إليه. في كتابه "الحل الهوديني The Houdini Solution " يعرض للقرّاء حكمة الإبداع التي تراكمت لديه خلال مسيرته المهنية ويدعونا إلى وضع الإبداع والابتكار موضع الفعل المثمر المؤثّر من خلال التفكير داخل الصندوق. إذ إنّ أهمّ مفاتيح نجاح المبدعين المنتجين اعتناقهم للعقبات اعتناقاً. إنّهم لا يهربون منها. أدمغتهم تدرك أنّ كل نكسة فرصة، وأن كل قيد مفتاح. حيث يرى الآخرون جداراً فإنّهم يرون باباً.
يستمدّ شنيك إلهام فكرته من عمل الساحر الكبير هاري هوديني. بعد أن يقيّد هوديني بالسلسلة ويغطّس في حوض الماء الزجاجيّ فإنّ مقاومة الصندوق ومصارعة السلسلة ستكون أسرع طريقٍ إلى الموت. لا يبدأ هوديني بالصراع ضد القيود وإنّما يبدأ بتقبّل حقيقة القيود المفروضة على حركته ويعمل ضمنها لإيجاد طريقةٍ للتملّص.
ومثال آخر يذكره شنيك هو بعثة أبولو 13 الفضائية عندما تعرّضت السفينة لانفجار جعلها تفقد الأوكسجين والكهرباء والإنارة والماء وهي على بُعد 200000 ميل عن الأرض. لو لم يجد المهندسون في مقر التحكّم بهيوستن حلاً يمكن للملاحين تنفيذه بالمواد المتاحة لديهم وحسب فإنّ أفراد الطاقم كانوا سيُقتلون اختناقاً قبل وصولهم إلى الأرض.
ويقول شنيك: التفت أينما شئت وستجد التفكير داخل الصندوق..
عليك تصميم منتج جديد، وعليك أن تبني ذلك المنتج. وموادّك الأوّليّة المتاحة كرتون وأكياس بلاستيكية، وشريط لاصق، وأشياء أخرى بسيطة. لديك ثمان وأربعون ساعةٍ للانتهاء وإلاّ سيفنى البشر!..
ولحسن الحظ، لا داعي للذعر فالضرورة في هذه الحالة هي أمّ الابتكار.
ريّح بالك! لا داعي للخروج من الصندوق!
ثمّ يوجّه شنيك سهام النقد المرير إلى أساتذة الإبداع أصحاب مدارسهم الخاصة المرسومة من بنات أفكارهم والذين لا ينفكّون عن نصحنا بالقول: فكروا خارج الصندوق! إن استطعتم التسلّق خارج هذا الصندوق الجهنّمي فسوف تجدون أنفسكم المبدعة حقاً.
عمّاذا يتحدث هؤلاء؟! أليست الصناديق جزءاً واقعياً من وجودنا؟
كل شيءٍ تقريباً في حياتنا صندوق: علاقاتنا، وظائفنا، مكان معيشتنا، فتوّتنا أو هرمنا، امتلاء جيوبنا أو فراغها..
هذه كلّها صناديق لها جدران. لها حدود، ولكنّ هذه الجدران وهذه الحدود ليست سيئةً سوءاً مطلقاً. وإذاً في المرة القادمة التي تجد فيها نفسك تغلي وتفور غيظاً من القيود المحدّدة لخياراتك.. تريّث وخذ نفساً عميقاً: تذكّر هوديني الساحر وابدأ البحث عن الفرصة الإبداعية الموجودة حتماً داخل الصندوق.
أجب بنفسك ولنفسك..
ماذا تبيّن لك تجارب التفكير في بداية المقالة عن إبداعك؟
عندما تبدأ مشروعاً جديداً فهل تفضّل حريةً مطلقةً أم تفضّل بضع نقاط مرشدة "وحدات بناء" تستعين بها في الانطلاق؟
هل يمكنك تذكر موقفٍ كان فيه للحدود أو للقواعد دورٌ مهمٌ في قدح شرارة إبداعك؟
هل توافق مايكل أنجلو في قوله "يحيا الفن بين القيود ويموت في الحريّة"؟