أين قلبك ؟ من فيه ؟ من تحبين ؟

[center]الشحرور المغرور
اصفرّت الأوراق وبدأت القشعريرة تدبّ في أوصال الشحرور اليافع .. فقد اقترب فصل الشتاء .. ببرودته القاسية وصقيعه المؤلم ووحدته القاتلة .. فما كان من العصفور الجميل إلا أن جمع أحلامه ومواهبه وآماله في حقيبة روحه وحلّق بجناحين قويين مُلأا قوة وشباباً وعنفواناً ..حلّق مرتفعاً.. كان يتخيّل أرض الأحلام .. تلك الأرض التي تهفو لها القلوب وتتسابق إليها الأرواح .. أرض السعادة والجمال و الراحة الأبدية ..كانت روحه تحدّثه عنها فتزداد سرعته .. وكلما أتعبه طول المسير .. دغدغ الحلم الوردي مشاعره فيطير به في عالم من الخيال .. عالمُ ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ..
إلا أن بُعد الشقة وقلّة الزاد أتعبت الصغير فقرر الهبوط ليرتاح قليلاً .. وينهل من عذب روضة بدت له من علو ..هبط وأخذ يشرب .. رفع رأسه.. فسحر جمال الروضة عينيه .. يال حسنك وجمالك ..يال روعتك وفتنتك .. جالت عيناه في المكان .. كان المنظر خلاباً..التفت أشجار الروضة حول الشحرور بدلال و قالت : ألا تبقى عندنا؟
هزّ الشحرور ذو المنقار المفتوح رأسه ببله .. رقصت الأزهار وتعانقت الأغصان فرحاً بنزيلها المميز .. زاغت أبصار الشحرور ذي المنقار المفتوح .. قالت الروضة : ولكن حذار فظلي لن يبقى ممدوداً وحسني يزول مع أوّل خطوة من خطوات الشتاء و.. و.. و.. استمرّ الشحرور ذو المنقار المفتوح بهزّ رأسه .. ولكنه لم يكن يسمع شيئاً ..لم يعي ماذا تقول .. كانت الألوان والأنغام وحلاوة الماء وعذوبة المنظر قد سلبته لبّه وأنسته أرض الأحلام.. ضاع حماس الهدف.. نام الحلم الوردي .. ركن قلب الشحرور إلى الروضة.. عاد إلى طفولته بعد أن كان عنفوان الشباب يسري في عروقه .. وأخذ يتصرّف كطفل صغير !! أحبّ الشحرور ذو المنقار المفتوح الروضة.. تعلّق بها.. ذاب حباً بها .. أحبّ أزهارها وأغصانها .. عشق ظلالها وأنهارها .. هام حتى بطين حافّة البحيرة الذي كان يلوّث ريشه ويعيق حركة قدميه .. أحبّ الطين !.. عشق كل ذرة من الروضة .. جميلة كانت أم غير جميلة ..
وفي لحظة استيقظ على صفعة هواء بارد لطمت وجهه وكادت تكسر منقاره الذي مازال مفتوحاً .. ولأول مرّة ومنذ مدّة ليست بالقليلة أغلق الشحرور ذو المنقار المفتوح منقاره ..ريح قوية أخرى قلبته وكادت تنتشله وترمي به بعيداً ..
باردة .. باردة.. قاسية .. قاسية.. تتقن صنعة الإيلام .. نظر الشحرور حوله .. كل الألوان تغيرت .. كل الأحلام تبدّلت .. لم تعد الأغصان متعانقة .. عارية .. موحشة .. باردة .. صامتة .. تجمّد وجه البحيرة .. تبعثرت الأوراق.. واندثرت الأزهار.. خاف الشحرور المسكين.. سقطت قطرة ماء فوق رأسه فارتطم بأعشاب يابسة متجمدة بدت كأشواك أو كسهام توجه تلقاء قلبه.. خاف الشحرور وامتزج ماء المطر الذي بلل ريشه بدمع عينيه..
- أين أذهب ؟ أين أنا ؟ لماذا أنا هنا أصلاً ؟.. أرض الأحلام !.. كيف نسيتها ؟!.. كيف أضعت حلمي الوردي ؟..
اختبأ تحت ورقة كبيرة منحته شيئاً من الدفء الذي منع أيدي الموت من الوصول إليه .. غفا الصغير.. غفا على صوت المطر الذي يدقّ الرأس حتى ينخره .. غفا بعد يوم طويل من التعب و الخوف و الألم..
وفي الصباح فتح عينيه على ألم مرير نام عليه..
- ضاعت مني أرض الأحلام !!
إلا أن إشراقة شمس ذلك اليوم منحته أملاً بالعودة من جديد .. نفض الماء عن ريشه.. حزم أمره.. لن أبقى هنا .. سأرحل بسرعة قبل أن يلحق بي شبح الشتاء وسأصل إلى أرض الأحلام ..لكن شيئاً ما في داخله استوقفه .. طيف الروضة وأغصانها .. رياضها وبحيرتها ..طين البحيرة التي عشق ..
فما كان منه إلا أن ابتلع صرخة كادت تدوي في أجزاء الكون بعد أن مدّ يده إلى صدره وانتزع قلبه ..نظر إليه .. رماه بنظرة لوم ثمّ ألقى به بين مخالبه تمزّقه وتحوّله إرباً.. تركه ممزقاً فوق جليد البحيرة.. وطار محلقاً مسرعاً إلى أرض الأحلام ولكن بجرح عميق في صدره ومنقار مغلق هذه المرة ..
[center]