صفا..

موضوع: صفا.. السبت 31 يوليو 2010, 8:38 pm

صفا بقلم د.هنادي الباشا..
الأيام تمر روتينية متشابهة مملة ...الدقائق ذاتها ...الأشخاص ذاتهم ...الأحداث ذاتها وكأننا ندور في حلقة مفرغة ...نعبر الزمن ذاته دون أن نترك ولو خدشا على جدار الدهر يذكر بأننا كنا يوما هنا !
نظن أننا إن لم نفعل شيئا يغير وجه الحياة الممل الذي نعيشه يعادل أننا أناس طيبون صالحون لا نؤذي أحدا بكوننا لا نفعل شيئا وبذلك نعيش على طرفي معادلة نتيجتها في النهاية لاشيء !
أجل نحن في النهاية مجرد لاشيء ...خانة تتراكم فيها الأصفار ...ولكن أصفار من النوع اليساري كثرتها لا تعني سوى ذلك اللاشيء !
ونحاول تجاهل أن فعلنا اللاشيء يجعلنا نتساوى مع أولئك الذين يفعلون أشياء فهم على الأقل غيروا وجه الحياة للأسوأ ونحن حافظنا على ذلك السوء !
مزقت أوراقا عديدة وأنا أحاول البدء بكتابة عن تجربتي مع طفلة صغيرة على الرغم من كونها لم تتجاوز ستة أشهر وعلى طريقها لنهاية مسدودة مرصوفة بالموت إلا أنها تركت خدشا صغيرا على جدار الزمن ...وعلى قلبي !
كان مجرد يوم روتيني آخر في مشفى الأطفال ...كنا نتجول مع الطبيب المشرف وكان الدرس ممتعا ومتعبا بذات الوقت ...تحلقنا حول سريرها الصغير ...لم يهتم الطبيب كثيرا بحالتها ...فحالتها ليست بحاجة للكثير من التفكير .
ولكنها لفتت نظري ،ليس لكونها حالة مرضية ستقدم الكثير من المعلومات بل كونها مأساة إنسانية ناتجة عن فعل البعض لذلك اللاشيء !
طفلة لم تبلغ السنة بعد ...صغيرة جميلة ...
جميلة بتمسكها بحياة قبيحة ...كانت تدافع عن وجودها الصغير ...بعكسنا !
قيلة سحائية توضعت أسفل ظهرها الصغير وجذبت إليها مكونات نخاعها الشوكي لتتركه ميتا و تتركها نصف جثة ! وتركت تشوها فظيعا في عمودها الفقري ليفقد جذعها اتزانه الطبيعي وتكون تلك القيلة فوهة لجهنم تدع الجراثيم تهاجم سحايا الصغيرة التي فقدت درعها الواقي لتدخل في حلقة من التهابات لا تنتهي ...
امتلأ جسدها بالثقوب وكدمات الإبر والقثاطر ...
لقد عانت كثير وهي مازالت يرقة صغيرة تنتظر فقط أن تصبح فراشة !
ومع ذلك ...لم تكن تبكي ...كما فعل باقي الصغار بل كانت تنادي "مّ ...مّ ..." تلك اللفظة المختصرة لماما ...كانت مشتاقة لماما !
تلك الأم التي تركت صغيرتها بلا عمل جراحي ... وتركت جهازها العصبي مفتوحا عرضة لكل جراثيم الدنيا ...لكي يكون سرير المشفى سريرها الدائم منذ ولادتها حتى هذه اللحظة ،وهي تنتهي من التهاب سحايا لتدخل في آخر ،علها تموت ولكنها لم تمت ...
يالسخرية القدر يريدون وأدها بطريقة عصرية وهي تأبى الموت بل يقاوم جسدها الصغير المرض لتحيا !
لم يتركوها عرضة للمرض فحسب بل أهملوا جسدها المشلول الصغير لكي تأكله القرحات ...فجلدها الناعم متقرح مدمى ....دون أن يبعث منظره المقزز الرحمة في قلب أهلها !
ولكنها ...
مع جسد نصف ميت ...
مع جسد مشوه ...
مجرد رضيعة ...برعم صغير مازال في خدره لم يتفتح بعد ...
تحدت الموت ...دافعت عن كينونتها أرادات أن تبق ما استطاعت في حياة لم تقدم لها سوى الألم ...
بدل أن تسلم روحها الصغيرة للموت ...تحدت الدنيا حولها ...تحدت من أرادوا لها الموت
وانتظرت على سرير المشفى ...تبحث عبر عينيها الصغيرتين اللتين سرقتا من الحور لونه البني الدافئ عن ماما ...كل ما كانت تريده هو حضن والدتها التي نادت اسمها مرارا وتكرارا دون مجيب ... Sad

لماذا ؟؟
أضع هذا السؤال وأنا لا أعلم إجابته ! يدفعون الملايين من أجل طفل وعندما يأتي مجانا نرميه في القمامة لمجرد أن مشوه ! تشوه هو نتيجة مباشرة -غالبا- لجهل الأهل !
ألا يكفيه هذا الطفل عذابه لكي يعاني من عذاب آخر ..!! عذاب الإهمال !
لا أدري كيف يعمل قلب هؤلاء ؟ إن كان لهم قلب !
مجرد سماعي لكلمة ماما من تلك الصغيرة جعلني أشعر بالحب يعتمل داخلي أحسست باني أريد أن أضمها واقبلها وأقول لها "أنا هنا يا طفلتي "
كم كانت جميلة وهي تطبق على إصبعي بأصابعها الصغيرة ويزداد تغريدها "ماما ...ماما " وكأنها وجدت ضالتها ...تحدق بي عبر رموشها الذهبية بنظرة تمحي كل ألم يعتصر القلب ...في عينيها ينتهي الحزن ...في عينيها اختصرت العالم بأكمله ...
أدري جيدا بأني كلماتي هذه لا تستطيع أن تعبر عن جمالها ...ذلك الجمال الروحي الذي بدأنا نفقده ... جمال لا يصبح مع الأيام روتينيا يبعث على الملل بل يتجدد في كل لحظة ليملأ القلب بمشاعر لم يعتدها ...فريدة ...صادقة لم تعرف بعد الدنس والكذب ...مازالت في طور التخلق لم تصل بعد لمرحلة التصنع باختصار ...إنه جمال "صفا " ...الملاك الصغير الذي لم يرد من الدنيا سوى الحياة ...
مازالت صفا على سرير المرض ...تنتظر أن تخرج من المشفى لتعود إلى "مّ" ومن ثم تعود مع المرض مجددا إلى سريرها في المشفى داخلة في متاهة لا تنتهي إلا بالموت ...عندها قد يسعدون بوأد جسدها المشوه ...وعندها قد تنتهي معركتها مع حياة لم تبدأ بعد لتحلق بجناحيها الصغيرين في جنة رحمن رحيم ...حيث لا ألم ...
هي ستموت وربما لن يذكر أحد يوما "صفا الصغيرة " ولكنها لم تستلم لما جعلناه شماعة لكل أخطاءنا " النصيب " بل حاولت أن تتمسك بالدنيا لآخر ذرة في روحها ...تركت خدشا -ربما هو غير مرئي - على جدار الدهر ...قالت لمن أرادوا موتها "لقد بقيت ستة أشهر في هذه الحياة "بينما نحن نختم بموت ما حياتنا ونعيش فقط لأنه مقدر لنا أن نبق فترة زمنية معينة في هذه الدنيا متناسين تماما أن حياتنا بلا شيء تساوي موتنا منذ الولادة ...
صغيرتي صفا ...
كم أتمنى أن يكون لي نصف ما لديك من قوة حتى لا تزل قدمي عند أول هوة حزن ...
أهديك كلماتي هذه ...
ربما بها لن تكوني مجرد ذكرى ما ...
Sad

موضوع: رد: صفا.. الأحد 01 أغسطس 2010, 12:59 am

قصة قصيرة جميلة .... و لا أدري هل هي نفس الكاتبة التي وضعت مقالتها قبل الآن يا راما و قلت أنها رفيقة أختك ؟
إن كان كذلك ... فأنا أرجو لها أن تكون طبيبة كاتبة لها أثرها الإيجابي في عالم القصص والكتب

موضوع: رد: صفا.. الأحد 01 أغسطس 2010, 1:22 am

شكراً على اهتمامك ..
نعم هي نفس الكاتبة وهي طبيبة سنة ثانية اختصاص أطفال..
flower

موضوع: رد: صفا.. الإثنين 02 أغسطس 2010, 8:37 pm

ما شاء الله على هذه الفتاة وعلى هذه القوة التي لها اتمنى بجد لو كنت لنا نفس قوتها وشجاعتها حتى نستطيع أنت نصنع اثرا في هذه الحياة اثرا نحو الافضل نحو التقدم flower

موضوع: رد: صفا.. الأربعاء 17 نوفمبر 2010, 2:15 am

قصه مؤثرا جداً أتمنى لها ولكِ مستقبلاً مشرقاً
شكراً لكِ على مواضيعك المميزه والمفيده
جزاكِ الله كل خير

موضوع: رد: صفا.. السبت 20 نوفمبر 2010, 12:48 am

شكرا لك يا راما ولها لم أملك نفسي عندما قرأت هذه القصة فسالت دموعي ،لقد أثارت في نفسي مشاعر غريبة لم أعرف ما هو تفسيرها ، أدعو الله عز و جل أن يرزقني تلك القوة التي تتمتع بها هذه الطفلة فهي أفضل من جميعا ،طهر و صفاء وعزيمة وأمل ، أرجو أن تمدينا بقصص كهذه دائما على تحيي في نفوسنا ما أماتته الدنيا و زينتها

موضوع: رد: صفا.. السبت 20 نوفمبر 2010, 10:52 pm

شكراً لمروركم حنان , نور , ثواب ..

وشكراً تعاطفكم وتأثركم..

موضوع: رد: صفا.. السبت 20 نوفمبر 2010, 10:54 pm

لعفو رمرومي

موضوع: رد: صفا.. الأحد 21 نوفمبر 2010, 10:28 pm

قصة مؤثرة جداً جداً جداً جداً جداً جداً Crying or Very sad

شكراً لكي راما على موضوعيك المميزة Smile