لا تدافع عن براهينك كالصخر أسّسها على صخر

Admin عدد المساهمات : 1572 تاريخ التسجيل : 09/08/2009

لا تدافع عن براهينك كالصخر أسّسها على صخر
تعلّم تمييز وجاهة الحجج منطقياً

عزيزي القارئ:
حتّى تتمكن من التفكير تفكيراً نقدياً لا بدّ من أن تكون قادراً على ملاحظة وإنشاء وتقييم الحجج Arguments. ضمن سلسلة التفكير النقدي افتتحنا في مقالة العدد الماضي موضوع "تحليل الحجج المنطقية" وبدأنا تعريف "الحجّة أو البرهان Argument".

ونتابع في مقالة اليوم مع تعريف "وجاهة أو مقبوليّة" الحجّة Validity، والتمييز بين هذه الصفة وبين حقّانية –أو صدق- Trueness البيانات المكوّنة للحجّة، وسلامة الحجّة إجمالاً Soundness.

وقبل المضيّ نذكّر بأن الحجة تركيبةٌ من مقدّمة Premise –أو مقدّمات- يتولّد عنها النتيجة Conclusion التي تريد إقناع محاورك بها. وتبييناً لأهمية هذا المبحث يمكن القول إن جزءاً معتبراً من علم المنطق ما هو إلاّ دراسة إنشاء وتحليل الحجج.

دعونا نشبّه الحجّة بالجسر. إنّ التحقّق من إمكانية تركيب هذا الجسر هندسياً (قبل الدخول في إمكانية وجود عناصر البناء المزعومة) يشبه البحث في وجاهة -أو مقبوليّة- الحجّة منطقياً.

تعريف وجاهة الحجّة (أو مقبوليّتها Validity)
من أهم خصائص الحجّة المعتبرة أن تكون نتيجتها Conclusion متولّدةً عن مقدماتها Premises. ولكن ماذا يعني هذا الكلام في الواقع؟ فلنتأمل الحجتين التاليتين حتى نرى الإجابة:
1- تجاوزت سميّة عامها التسعين، وإذاً مضى من عمرها أكثر من عشرين سنة.
2- تجاوزت سميّة عامها العشرين، وإذاً مضى من عمرها أكثر من تسعين سنة.

بدهياً نلاحظ أنّ نتيجة الحجّة الأولى تتولّد عن مقدّمتها، بينما نتيجة الحجّة الثانية لا تنتج عن المقدّمة. ولكن ألا يمكننا أن نبيّن الفرق بين الحجّتين بمزيد من الوضوح؟ بلى، وإليكم هذه الفكرة الجديرة بالتجربة على كل حجة تمرّون بها:

في الحجة الأولى إن كانت المقدّمة صادقةً حقاً فإنّ النتيجة يستحيل أن تكون كاذبة.

بينما في الحجة الثانية، حتى لو كانت المقدّمة صادقةً فإنّ ذلك لا يضمن أبداً صدق النتيجة. فسميّة يمكن أن تبلغ من العمر مثلاً ثلاثين سنةً. واستناداً إلى الفكرة البسيطة السابقة سنخرج بالتعريف التالي للحجّة الوجيهة (أو المقبولة أو السائغة):

تعتبر الحجّة "وجيهة" (أو مقبولة) حصراً عندما يستحيل وجود حالةٍ تكون فيها كل المقدّمات صادقةً والنتيجة غير صادقة في الوقت ذاته.

بتطبيق التعريف السابق نستطيع أن نرى أن الحجّة الأولى "وجيهة أو مقبولة" بسبب استحالة وجود وضعٍ ممكنٍ منطقياً تكونُ فيه سميّة أكبر من تسعين وأصغر من عشرين.

ونستطيع أن نرى الحجة الثانية "غير وجيهة" لأنّه يمكن منطقياً وجود حالاتٍ كثيرة تكونُ فيها المقدمةُ صادقةً بينما النتيجة غير صادقة. ألا يمكن أن تكون سميّة في الخامسة والعشرين أو الخامسة والثمانين أو أي عمر آخر أكبر من العشرين بيوم وأقلّ من التسعين بيوم؟ إنّ حقيقة إمكانية أيٍّ من هذه الحالات تكفي لتبيين أنّ هذه الحجّة "غير وجيهة أو غير مقبولة Invalid"

بين وجاهة الحجج وحقّانيتها:
ماذا لو كان للحجّة المعروضة أكثر من مقدّمة ؟ مثلاً:
الفيلة كلّها تستطيع الطيران. وأي شيءٍ يطير يستطيع أن يسبح. وإذاً الفيلة كلّها تستطيع السباحة.
بالرغم من أنّ مقدّمتي الحجة السابقة غير صادقتين، فإنّها تبقى بالفعل حجّةً "وجيهة أو مقبولة".

لتقييم مقبوليّتها سل نفسك: هل من الممكن الإتيان بحالةٍ تكونُ فيها كل المقدّمات السابقة حقّانيّة (أو صادقةً) والنتيجة غير حقّانيّة؟. (انتبه إلى أنّنا لا نطلب هنا البحث عن حالةٍ تكونُ فيها كل المقدمات والنتيجة صادقةً معاً)

بالطبع إجابة السؤال السابق هي النفي. إن كانت الفيلة تستطيع الطيران حقاً، وإن كان كل ما يطير يمكنه أن يسبح حقاً، فإذاً لا بدّ في المنطق من القول إنّ كل الفيلة تستطيع أن تسبح.

ومن خلال المثال السابق نستنتج الفكرة المهمة التالية:
مقدّمة -أو مقدّمات- ونتيجة الحجّة "الوجيهة أو المقبولة" يمكن أن تكون كلّها غير صادقة

بالنظر إلى ما سبق من أمثلة أرجو أن يكون واضحاً لديك الآن عزيزي القارئ أنّ وجاهة أو عدم وجاهة الحجّة منطقياً هو أمرٌ آخر لا علاقة له بصدق أو ببطلان المقدّمات في الحقيقة. وجاهة الحجّة يقرّرها تمحيص العلاقات المنطقية بين المقدّمات والنتيجة. إنّ الحجّة الوجيهة هي تلك التي يضمنُ فيها صدقُ المقدّمة صدق النتيجة حتماً، ولكنّ الوجاهة (أو مقبولية العلاقة منطقياً) لا تضمن صدق المقدّمات في الواقع. إنّ ما تعنيه وجاهة (أو مقبوليّة) الحجّة هو:
إن كانت المقدماتُ صادقةً، فإنّ النتيجة صادقةٌ حتماً.

تفنيد وجاهة الحجج
أهذا ممكن؟.. ولم لا؟
تأمّل في الحجّة التالية:
سمير يثق بكمال. وكمال يثق بسالم. إذاً، سمير يثق بسالم.
هذه الحجّة غير وجيهة (أو غير مقبولة). لماذا؟ لأنّه يمكن منطقياً أن تكون المقدّمات "حقّانيّة –أو صادقة-" وأن تكون النتيجة في الوقت ذاته "غير حقّانيّة –أو كاذبة-". ما الذي يمنع أن يكون سمير يثق بكمال ولكنّه في الوقت ذاته لا يعرف سالماً حتّى يثق به، أو ربما هو يشكّك فيه لأنّه يعرف عنه شيئاً مخلاً بالثقة لا يعرفه كمال؟ لا مانع منطقياً من ذلك أبداً.

إنّ مجرّد إمكان وجود حالةٍ من الحالات السابقة يكفي لإثبات أن الحجة السابقة غير وجيهة. ودعنا نسمّي تلك الحالات بـِ "الأمثلة المخالفة المفنّدة لوجاهة الحجّة Argument Invalidating Counterexamples"

أساسياً، تعرّف الحجّة الوجيهة (أو المقبولة أو السائغة) على أنها تلك الحجّة التي لا يمكن أن يوجد لنتيجتها أمثلةٌ مخالفة مفنّدة. ولذلك يصبح من المهمّ جداً في تحسين مهارتك في تقييم الحجج أن تنمّي مقدرة ملاحظة وإنشاء هذه الأمثلة.

لاحظ عزيزي القارئ هنا أنّ الأمثلة المخالفة المفنّدة لوجاهة الحجّة لا لزوم لأن تكون موجودةً بالفعل في موقف حقيقيّ.

قد يتبيّن لنا مثلاً أنّ سميراً وكمالاً وسالماً أشقاء في أسرة واحدة ويثق بعضهم ببعض. ولكن بالرغم من ذلك فإنّ الحجّة المذكورة آنفاً تبقى غير وجيهة لأنّ ما أنشأناه من الأمثلة المخالفة الداحضة لوجاهتها ممكن، وإن لم يكن موجوداً في الحقيقة. إنّ كلّ ما يلزم في المثال المخالف الداحض لوجاهة الحجّة هو أن يقدّم حالةً واحدةً متماسكة تكون فيها كلّ المقدّمات حقّانيّة (أوصادقة) وتكون النتيجة غير حقّانيّة (أو كاذبة). وبناءً على ذلك ينبغي أن نتذكّر التالي:

يمكن أن تكونَ حجةٌ ما غير وجيهة Invalid (أو غير مقبولة) حتّى لو كانت كلّ مقدّماتها ونتيجتها صادقة.

ولمزيد من التوضيح إليك عزيز القارئ مثالاً آخر على حجة غير وجيهة مقدّمتها صادقة ونتيجتها كذلك صادقة.

باريس عاصمة فرنسا. إذاً روما عاصمة إيطاليا.
إنّ هذه الحجّة غير وجيهة (غير مقبولة) لأنّه يمكن أن تتحوّل عاصمة إيطاليا -إلى ميلانو مثلاً- في الوقت ذاته الذي تبقى فيه باريس عاصمة لفرنسا. ومن يقول إن هذه الحجة وجيهة عليه أن يثبت لماذا يستحيل أن تكون ميلانو أو أيُّ مدينةٍ أخرى عاصمةً لإيطاليا طالما أن باريس عاصمةٌ لفرنسا.

نقطةٌ أخرى ينبغي التنبّه لها دوماً في شأن وجاهة (أو مقبوليّة) الحجج هي:
الحجّة الوجيهة (أو المقبولة) يمكن أن تكون نتيجتها صادقة في الوقت ذاته الذي يكون فيه بعض أو كل مقدّماتها غير صادق.
مثلاً: كل الفيلة لونها زهريّ. وأيُّ شيءٍ زهريّ حيوان. إذاً كلُّ الفيلة حيوانات.

تذكّر، ودرّب نفسك على إنشاء وملاحظة أمثلة على ما يلي:
1- الحجّة غير المقبولة يمكن أن يكون بعض أو كلّ مقدّماتها ونتيجتها صادقاً
2- الحجّة المقبولة يمكن أن يكون بعضُ أو كلّ مقدّماتها ونتيجتها غير صادق

اختبار المقبولية قنطار وقاية
قل لي كيف تفكر وليس فيم تفكّر ولا كم تفكّر..
إنّ مفهوم المقبوليّة (أو الوجاهة أو السائغيّة Validity) يتيح تفهّماً أكثر دقةً لما يقتضيه تولّد النتيجة عن المقدّمات. وبما أنّ هذا المفهوم من أشدّ المفاهيم أهميةً في موضوع التفكير النقديّ فإنّه ينبغي عليك التريّث والتأكد من حسن استيعابك له.

في تعريف مقبوليّة الحجّة الذي رأيناه في السطور السابقة (استحالة وجود حالةٍ تكون فيها كل المقدّمات صادقةً والنتيجة غير صادقة في الوقت ذاته) فرّقنا بين مقبوليّة بناء الحجّة وبين حقّانيّة كلٍّ من عناصر ذلك البناء.

في الاستخدام الشائع بين الناس كثيراً ما تجد صفة وجاهة الحجّة أو المقبوليّة تستخدم كمرادف غير مميّز عن الصدق (أو الحقّانيّة) –وكذلك تجد خلطاً بين عدم الوجاهة وعدم الصدق- ولكن في حديثنا هنا عن إنشاء وتحليل الحجج يقتصر استخدام صفة المقبوليّة أو عدم المقبوليّة على الحجّة (أو العلاقات بين عناصر الحجّة على وجه الدقّة) ولا مكان لاستخدامها في تقييم البيانات المكوّنة للحجّة. والصدق (أو الحقّانيّة) خاصيّةٌ توصّف البيانات المكوّنة للحجّة وليست صفةً للحجّة كلّها. وبعد هذا التوضيح إيّاك عزيز القارئ أن تنزلق إلى استخدام عباراتٍ غير دقيقة مثل: "هذا البيان وجيه!" أو هذه الحجّة حقّانيّة!"

في تحليل مقبوليّة أو وجاهة الحجّة: وحده البيان (مقدّمة الحجّة أو نتيجتها) هو الذي يمكن وصفه بالصادق أو الكاذب، ووحده بناء الحجّة هو الذي التي يمكن أن يكون وجيهاً أو غير وجيه.

عزيزي القارئ: تحقّق من حسن استيعابك لما عرضناه في السطور الماضية. ففي الجزء التالي سنتناول بإذنه تعالى تمريناتٍ بسيطة ترسّخ فهم "وجاهة الحجّة -أو مقبوليّتها-" وتحرّض توسّعه، كما نتناول صفة "سلامة الحجّة" وإلى ذلك الحين دمتم مفكرين ناقدين.

منقول من مجلة الابداع --------