يقول نابليون: جيش من الأرانب يقوده أسد, خير من جيش من الأسود يقوده أرنب..!
و الحقيقة الأفضل من ذلك هو: جيش من الأسود يقوده أسد.
وقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل من أتباعه قادة, ولذلك استمر الإسلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم, لأنه كان هناك قادة من بعده يحملون هم هذا الدين, ويستشعرون بالمسؤولية تجاه نشره, وقادرين على اتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب .
والناظر في سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام, يجد كيف كان يتعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه على أنهم أسود, بمعنى أنهم قادة لهم رأي, ولهم مواقف, ويشاركون في صنع القرار, وكمثال على ذلك؛ في غزوة بدر حينما نزل النبي صلى الله عليه وسلم أول ما نزل في مكان معين, جاءه رجل لم يكن قائدا في الجيش ولكن جندي, هو الحباب بن المنذر رضي الله عنه، قال: "يا رسول الله أهذا منزل أنزلكه الله (أي إذا كان وحي فلا يد لنا فيه ولا اعتراض) أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟"
قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة) قال: "فما هذا بمنزل".
فقام النبي صلى الله عليه وسلم, وغيّر مكان الجيش الذي اختاره هو, وغير الخطة كلها بناءاً على اقتراح وجيه جاءه من جندي في الجيش .
وانظر إلى ما رواه الإمام أحمد عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خصمان يحتكمان فقال لعمرو: (اقض بينهما يا عمرو) فقال : أنت أولى بذلك مني يا رسول الله قال: وإن كان قال : فإذا قضيت بينهما فما لي ؟ قال: (إن أنت قضيت بينهما فأصبت القضاء فلك عشر حسنات وإن أنت اجتهدت فأخطأت فلك حسنة) فانظر كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا أن يجتهد الصحابة, وينظروا في القضايا, ويحكموا بين الناس, كما هو واضح في هذا المثال مع الصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه .
والحقيقة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعامل مع كل شخصية من صحابته بما يناسبها, ولذا سنجد أن الصحابة من جهة القيادة كانوا أصنافا ثلاثة:
1) فبعض الصحابة كانت فيهم موهبة القيادة من قبل إسلامهم, فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على استغلالها وتنميتها وصقلها, كأمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين .
2) بينما كان هناك بعض الصحابة لم تتوافر القدرات القيادية, وكبروا على ذلك ثم أسلموا, فلم يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم قادة بل وجههم إلى ما يحسنون مثل الدعوة او العلم أو غير ذلك, مثل أبي ذر رضي الله عنه حيث قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يا أبا ذر إني لأراك ضعيفا وإني لأحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين)
3) وأما الصنف الثالث فهم شباب الصحابة الذبن نشأوا في الإسلام, فسنجد أن أغلبهم صار من القادة في المستقبل حين انتشرت الفتوحات, وتوزعوا في البلاد المختلفة, وصار أكثرهم زعماء فيها مثل : الحسن والحسين وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم ، وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على أن الأصل أن البيئة التي صنعها النبي صلى الله عليه وسلم هي بيئة تصنيع قادة, وهي مدرسة متكاملة لازالت تخرج قادة متميزين جيلا بعد جيل على مر العصور, ولم يحدث في تاريخ الإسلام في أي عصر من العصور أن فشل في إخراج قادة يحملون همه, ويستشعرون بالمسؤولية تجاهه, ويضحون بالغالي والنفيس لنصرته .
أزمة عصرية:
ولعلها تكون مشكلة منتشرة في زماننا اليوم ألا وهي تربية الأتباع تربية عبيد لا تربية قادة ، في المؤسسات تجدها في أغلب الأحيان تمارس نظاما إداريا مركزيا لا يهتم بالأتباع ذوي الكفاءات العالية, بل قد تجد المديرين في المراكز العليا يخافون ويبتعدون عن تعيين ذوي الكفاءة العالية حتى لا يأخذوا مكانهم في المستقبل ، وتجدهم كذلك غير حريصين على تطوير موظفيهم تطويرا حقيقيا يؤهلهم ليخلفوهم من بعدهم في المراكز القيادية ، ولذا فهؤلاء القادة لا يعجبهم إلا أن يسير وراءهم مجموعة من الرعاع الذين لا يفقهون شيئا ولا يعرفون إلا جملة : وافق أو نافق أو فارق .
وبالطبع فوجود مثل هذه القوانين الخفية والأسس الدسيسة في المؤسسات اليوم ، يعتبر من أكبر أسباب فشلها ، وانطباعها بطابع السلبية وتعطل كفاتها الإنتاجية, ولا شك أن عدم وجود أتباع مخلصين واعين يعبرون عن آرائهم بشجاعة, ويستفسرون من قيادتهم عن أسباب قراراتهم, ويقومون بواجب النصح لقادتهم يعتبر كارثة محققة لأي مؤسسة ، إن عدم وجود أمثال هؤلاء واستبدالهم بمجموعة من الرعاع الذين لا يحسنون إلا النباح والصياح لقيادتهم " عاش عهدكم المجيد " يهوي بكثير من الدول والشركات والمؤسسات إلى الهاوية .
وقد انتقد القرآن الكريم أهل مصر الذين اتبعوا فرعون دون تفكير ، فعاقبهم الله بذلك قال تعالى " فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين "
ومن الأمثلة الخيالية التي تضرب على ذلك : أنه في يوم من الأيام كان هناك موكب استعراضي ضخم لأحد هؤلاء القادة وأثناء سيره في موكبه الضخم والجماهير الغفيرة تهتف له وتتبعه وتسير خلفه ، إذا برجل من وسط هذه الجماهير الغفيرة يصيح ويقول : انتبهوا أيها الناس أنتم تسيرون إلى الهاوية آخر هذا الطريق حفرة عظيمة لا تنتبهون إليها وستسقطون فيها فتهلككم جميعا فانتبهوا وحيدوا عن هذا الطريق " توقف الناس حوله وبدأوا يتساءلون فيما بينهم : كيف يكون ذلك وهل هناك حفرة حقا ؟ وإذا بقائدهم يشق طريقه بثقة إلى الأمام مرفوع الرأس في فخر وكبرياء ولا يستطيع أحد أن يكلمه أو يشير إليه أو يحذره ثم قالوا : لا شك طالما أنه بهذه الثقة أنه يعرف طريقه جيدا ويسير في الاتجاه الصحيح انظروا إليه وقد بدت علامات الثقة عليه ، اتبعوه ولا تقلقوا " وانطلقوا وراءه في حماسة أما القائد فبعد مدة بدت علامات القلق تبدو عليه إذ بدأت تتضح له علامات الخطأ وأنه يسير في طريق الهاوية فالتفت وراءه يسأل نفسه " هل من الممكن أن أكون ماشيا في الطريق الخاطئ ؟ لا شك أني أسير في الطريق الصحيح ، فكل هذه الجموع تتبعني ولا يمكن أن أكون قد انحرفت عن الطريق الصحيح " وهكذا انطلق هذا القائد بهم إلى الهاوية
التعامل الصحيح بين القادة والأتباع :
من هنا وجب على القادة أن يحترموا آراء أتباعهم ويحرصوا على استشارتهم, وعلى الأتباع أن يتبعوا قائدهم طاعة واعية لا طاعة عمياء, ويحرصوا على التأكد من صحة وجهة نظر القائد وتوافقها مع القيم والمبادئ الصحيحة, كما عليهم أن يقوموا بتصحيح مسار القائد إن أخطأ أو غفل أو سها, كما كان عمر رضي الله عنه يطلب من أتباعه فيقول لهم : "إن أحسنت فأعينوني وإن أخطأت فقوموني" فقام له رجل وقال : سنقومك بسيوفنا هذه يا عمر, فقال له عمر : "الحمدلله الذي جعل في أمة عمر من يقوم اعوجاجه بالسيف "
كذلك على الأتباع أن يكونوا إيجابيين ومبادرين ,ويعمدوا إلى اتخاذ الإجراءات الصحيحة وعدم انتظار الأوامر فقط, وعليهم أن يفهموا أن قيادتهم بشر, وأي إنسان قد يصيب وقد يخطئ, وأي إنسان لا يحيط علما بجميع الأمور ، لذا فقد يلتفت أي جندي بسيط إلى شئ يفوت كبار القواد ولذا فعلى الأتباع تقديم النصيحة والمشورة دائما إلى قوادهم, وعلى القادة أن يحترموا آراء أتباعهم وينصتوا إليها ويأخذوها بمحمل الجد ، بل وعليهم تشجيع أتباعهم على إبداء آرائهم وعرض أفكارهم ، ومن أعظم الأمثلة التي تعلمنا كيف يجب ان يكون التابع إيجابيا ومبادرا ومقدما آرائه إلى قيادته مثال الهدهد مع سيدنا سليمان عليه السلام, فسيدنا سليمان عليه السلام كان ملكا نبيا, وكانت جنوده من الجن والإنس والطير, ومع كل هذا لم يمنع ذلك الهدهد أن يكون إيجابيا مبادرا, وأن يلفت قائده إلى شئ لم يحط به علما, فجاء الهدهد إلى سيدنا سليمان وحدثه بمنتهى الشجاعة والثقة وقال له " أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين, إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون " (سورة النمل)
ولا ينبغي أن تكتفي القيادة باحترام واستشارة أتباعها فقط؛ بل عليها أن تصطفي من أتباعها من يصلح أن يكون أهلا للقيادة فتصنع منهم قادة ، ليخلفوهم بعد ذلك ،.