كن صقراَ............

Admin عدد المساهمات : 1572 تاريخ التسجيل : 09/08/2009

كن صقراً (2)

د. علي الحمّادي

سأل أحد العظماء ولده وكان نجيباً: يا بني، أي غاية تطلب في حياتك؟ وأي رجل من عظماء الرجال تحب أن تكون؟
فأجابه: أحب أن أكون مثلك يا أبت.
فقال: ويحك يا بني! لقد صغَّرت نفسك، وسقطت همتك، فلتبك على عقلك البواكي! لقد قدَّرت لنفسي يا بني في مبدأ نشأتي أن أكون كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، فما زلت أجدُّ وأكدح حتى بلغتُ المنزلة التي تراها، وبيني وبين علي ما تعلم من الشأو البعيد والمدى المستطيل، فهل يسرّك وقد طلبت منزلتي أن يكون ما بينك و بيني من المدى مثل ما بيني وبين علي رضي الله عنه؟

صناعة التأثير و هندسة الحياة تبدأ ابتداءً من أعماق الذات، إذ من لم يكن صقراً له همة عالية وطموح سامق فلن يستطيع أن يسلك سبيل التأثير، وإن سلك فسرعان ما يتوقف، ذلك أن هذا الطريق ليس طريقاً سهلاً مفروشاً بالورود والرياحين وإنّما هو طريق جاد يحتاج إلى رجال كاملي الرجولة وليس إلى أنصاف الرجال.

من عزّت عليه نفسه أحكم قيادها ولم تقف عزيمته دون النجوم:
كان أبو مسلم الخولاني رحمه الله حازماً مع نفسه سامياً في همته، وكان يخاطب نفسه ويقول: (قومي فوالله لأزحفنّ بك إلى الله زحفاً حتى يكون الكلل منك لا مني).

ويقول كذلك: (أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يستأثروا به دوننا، كلا والله، لنزاحمنّهم عليه زحاماً حتى يعلموا أنهم خلفوا بعدهم رجالاً).

وهذا مصطفى السباعي رحمه الله كان عالي الهمة، في حركة دائبة، لا يكل ولا يمل، حتى إنه أصيب بالفالج فظن بعض الناس أنه قد انتهى، فقال رافضاً هذه المقولة:
فإن تكن الأيام أودت بصحتي وعاقت خطى عزمي بكل مسدد
فما كنت خواراً ولا كنت يائساً ولست بثاو في فراشي ومقعد
سأمشي إلى الغايات مشي مكافح ألوذ بعز الله من كل معتد
وقيل لبعض العباد: ارفق بنفسك، قال: الرفق أطلب.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (الراحة للرجال غفلة)

وكان عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول:
إذا المرء لم يترك طعاماً يحبُّه ولم ينه قلباً غاوياً حيث يمَّما
قضى وطراً منه وغادر سُبَّةً إذا ذكرتْ أمثالُها تملأُ الفما

و من هانت عليه نفسه أرخى زمامها وانحدرت عزيمته انحدار الماء إلى القيعان:
وبعد هذه الأمثلة الفذة في السمو والعلو نجد أن ثمة أمثلة كثيرة أخرى في ضعف الهمة وفي الانشغال في المرجوح دون الراجح وفي المفضول عن الفاضل. وفي أحيان كثيرة يكون الانشغال في توافه الأشياء وسفاسف الأمور، سواء كان ذلك أكلاً أو شرباً أو متعة أو لهواً أو غير ذلك، وقد يحق في كثير من هؤلاء قول الله تعالى: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ}

فهذا ميسرة كان يعشق الأكل، ويهيم في الطعام، وكان له بطن كعيبة الجمل، وقد روي عنه أنه أكل كومة ذرة وشاة في مجلس واحد. وأقسمت امرأة ذات مرة أن تشبع ميسرة فقدمت له سبعين قرصاً، فأكل أربعة وستين قرصاً واستحيا من المرأة فترك لها ستة أقراص!!

وروى الأصمعي أنه سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك ميتةً كميتة أبي خارجة، أكل بَذْجاً، وشرب معسلاً، ونام في الشمس، فمات شبعان ريَّان دفآن!!

أما أشعب فقد كان يقول: والله ما مررت بمن يصنع صحون الخزف إلا قلت كبرها لعله أن يُهدى إليّ فيها طعام!! وفيه وفي أمثاله يحق قول القائل:
إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت ولم ينهها تاقت إلى كل مطلب

وسئل الحسن البصري فقيل له: ما تقول في من يأكل أكلة واحدة في اليوم؟ فقال: هذا فعل الأنبياء والصالحين، فقيل له: وما تقول فيمن يأكل أكلتين في اليوم؟ فقال: هذا فعل عامة الناس، فقيل له: وما تقول فيمن يأكل ثلاث أكلات في اليوم؟ فقال: قولوا لأهله فليبنوا له معلفاً!!

وقد استعاذ الإمام ابن الجوزي رحمه الله من أصحاب الهمم الضعيفة فقال: (أعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم، لا نرى فيهم ذا همة عالية فيقتدي به المبتدئ، ولا صاحب ورع فيستفيد منه المتزهد).

ويقول كذلك ابن الجوزي: (قد رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيباً، إن طال الليل فبحديث لا ينفع أو بقراءة كتاب فيه غزل وسمر، وإن طال النهار فبالنوم، وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق، فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة وهي تجري وما عندهم خبر، ورأيت النادرين قد فهموا معنى ا لزمان وتهيؤوا للرحيل، فالله الله في مواسم العمر، والبدار البدار قبل الفوات، ونافسوا الزمان).

ولكم تعجبتُ من الرئيس التركمستاني سابارامورات نيازوف الذي لما أراد تطوير بلاده اتخذ عدة قرارات وممارسات تجعل الحليم حيراناً، منها على سبيل المثال:

- ابتكر عطلة رسمية أسماها ((يوم البطيخ))، وهي العطلة الأكثر شعبية، وتكون في العاشر من يوليو، وقد أعلن التلفزيون التركماني قائلاً: إن هبة الله (البطيخ) لها تاريخ مجيد، وإن قائدنا العظيم، الذي يكن حبّاً كبيراً لأمته، رفع البطيخ اللذيذ المذاق إلى مرتبة تحديد يوم عطلة وطنية له!!
- حظر إطلاق اللحى، بل تلقى الحلاقون تعليمات بالتوجيه إلى المطارات والمعابر الحدودية لقص شعر كل زائر أجنبي عند وصوله إلى البلاد في حال كان شعره طويلاً!!
- ألف كتاباً روحياً أسماه (الرخنامة)، وألزم كل تلميذ في مدرسة أو مسؤول في الحكومة قراءة كتابه هذا مرة أسبوعياً!!
- أقام له تمثالاً ضخماً من الذهب في قلب عاصمة بلاده عشق آباد بحيث يدور التمثال لتكون الشمس دائماً وراءه، الأمر الذي يجعل التمثال يبهر عيون الناظرين، في حين أن (35%) من رعاياه يعيشون تحت خط الفقر!!
- جعل شهور السنة ثمانية بدلاً من اثني عشر، مدة كل شهر 45 يوماً، وأعاد تسمية شهور السنة على اسمه واسم والدته واسم كتابه!!
- سمى المطارات، والموانئ، واللبن الزبادي، والعطور، والأحجار، وغيرها باسمه!!

عدوّك يقظ طموح مجتهد فماذا لديك أنت؟
وبعد الحديث عن أصحاب الهمم غير العالية أود أن أذكر مثلين لامرأتين كانت لهما همم عالية ولكن في محاربة الإسلام والقضاء على المسلمين، وذلك من أجل أن يفيق المسلمون من سباتهم، ويدركوا أن الأمر جِدٌّ، وأننا إن لم نتحرك لتمكن أنفسنا والحفاظ على هويتنا فإن غيرنا يتحرك، وبجد وعزم، للقضاء علينا وعلى هويتنا.

- إيزابيل ملكة قشتالة:
أما المرأة الأولى فهي (إيزابيل) بنت (خوان الثاني)، ملكة قشتالة وإسبانية، تلك الملكة التي قدَّمت الخدمات والتضحيات في سبيل إسبانيا ودينها، ونسيت أنها امرأة، وأقسمت وقطعت عهداً على نفسها بعدم استبدال قميصها حتى تسقط غرناطة في يدها، وذلك قبل سنوات عديدة من حدوث التسليم فعلاً.

إنها إيزابيل التي كتب عنها وعن سيرتها ((فيرناندو فيثكايينو كاساس)) (أشهر القصَّاصين الأسبان) ترجمته الشهيرة: (إيزابيل.. القميص العتيق)، في نوفمبر سنة 1987م، وصدرت الطبعة الرابعة منه في ديسمبر من العام نفسه، وطالب الكاتب فيه برفع إيزابيل إلى درجة قدّيسة.

إنها إيزابيل التي أسقطت ملك المسلمين في غرناطة والأندلس نهائياً.
إنها إيزابيل التي وحدت جهود ملوك النصارى ضدّ المسلمين.
إنها إيزابيل التي رهنت مجوهراتها لدفعِ مرتبات الجنود، وكانت تُشرف على المعارك ضدَّ المسلمين بنفسها.
إنها إيزابيل ذات الأهمية العظمى في تاريخ أوروبا وأمريكا من خلال المنظور الكاثوليكي.
فهذه امرأة طردت المسلمين من الأندلس، ولو لم يكن لها إلاَّ هذا لكفاها!!

- جولدا مائير رئيسة وزراء الكيان الصهيوني:
وأما المرأة الثانية التي سعت جاهدة في محاربتنا كأمة مسلمة فهي (جولدا مائير)، تلك المرأة الصهيونية التي كانت من مؤسسي الكيان الإسرائيلي في فلسطين المحتلة.

ذهبت جولدا مائير إلى الولايات المتحدة لتجمع التبرعات لإسرائيل، وعادت محملة بخمسين مليون دولار، فقال عنها بن غوريون: (سيقال عند كتابة التاريخ: إن امرأة يهودية أحضرت المال، وهي التي صنعت الدولة) بل قال عنها ثانية: (إنها الرجل الوحيد في الدولة)

وقالت هذه اليهودية: (لقد كانت مسألة العمل في حركة العمل الصهيوني، تُجبرني على الإخلاص لها، ونسيان همومي كلها، وأعتقد أن هذا الوضع لم يتغيَّر طيلة مجرى حياتي في الستة عقود التالية)

وتقول: (لقد كان علينا الاعتماد على أنفسنا، ومجابهة أيّ طارئ بروح بطولية مسؤولة)

ترى هل نحتاج إلى تعليق على هذين المثلين أم أنهما يشرحان أنفسهما بأنفسهما، أظن أن الأمر كذلك، وصدق القائل إذ يقول:
تكفي اللبيب إشارة مرموزة وسواه يُدعى بالنداء العالي

اعرف نفسك! بالأفعال لا بالأمنيات
ويحسن بنا الإشارة إلى أن ثمة مؤشرات وعلامات تدل على علو همة المرء، ولعل من أهمها ما يلي:
- تحرقه وحسرته على ما مضى من أيامه، وما فرط في سالف زمانه.
- كثرة همومه، وتألمه لحال الأمة وما فيها من ظلم وعنت وتخلف.
- موالاته النصيحة، وتقديم الحلول والاقتراحات لمن يأمل فيهم التغيير ويرجو منهم الإصلاح.
- طلبه للمعالي دائماً فيما يفعله أو يتعلمه أو يصلحه.
- كثرة شكواه من ضيق الوقت وعدم قدرته على إنجاز ما يريده في اليوم والليلة، وليست هذه الشكوى من نمط ما نسمع من ترداد كثير من الناس لها، ولكنها شكوى حقيقية نابعة من عمل دؤوب يستغرق أوقات الشخص فيبث تلك الآهات الصادقة.
- قوة عزمه وثبات رأيه وقلة تردده، فهو إذا قرر أمراً راشداً لا يسرع بنقضه بل يستمر فيه ويثبت عليه حتى يقضيه ويجني ثمرته، ولاشك أن كثرة التردد ونقض الأمر بعد إبرامه من علامات تدني الهمة.

وارسم طريقك بالخطوات لا بالكلمات:

وإليك كذلك هذه الوصايا الخمس عشرة التي يمكن بها النهوض بهمتك والسمو بها:
1- الاستعانة بالله والتوكل عليه وكثرة الدعاء والطلب من الله تعالى.
2- استشعار الأجر والثواب عند الله تعالى.
3- مراجعة برنامجك اليومي وتحديد أعمالك بوضوح.
4- الابتعاد عن سفاسف الأمور ودناياها.
5- مراعاة الأولويات بعد تحديدها.
6- قراءة سِيَر أهل الجد والاجتهاد والهمة العالية.
7- الابتعاد عن الانغماس في الكماليات والأمور الثانوية.
8- التأمل في المكانة السامية وفي إعزاز النفس الذي تتسبب به الهمة العالية.
9- محادثة النفس وإقناعها بأهمية الهمة العالية وضرورتها.
10- مجاهدة النفس ومخالفتها وعدم الاستسلام لها.
11- منافسة القمم، ورفع الرأس إلى السماء، وقبول التحديات.
12- التفاؤل لا التشاؤم واليأس.
13- تجنب الإفراط في المباحات، كما قال القائل:
من هجـر اللذات نال المنى ومن أكب على اللذات عض على اليد
14- الحذر من التسويف، كما قال القائل:
ولا أَدَّخِر شغل اليوم عـن كسـل إلـى غد، إن يوم العاجزين غد
15- تجنب الاستجابة السريعة للصوارف الأسرية والملهيات الاجتماعية.

واعلم كذلك أن من يسمو بهمته ويعلو بها مبتغياً وجه الله تعالى فإنما هو أولاً وأخيراً يعمل لنفسه، ويقدم لآخرته، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وفي الحديث القدسي: ((يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها).

-من لي بمثل سيرك المدلّل تمشي رويداً وتجي في الأول
وأخيراً تأمل وتفكر وتدبر ما سطره الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه (الفوائد) حيث قال:
الكيّسُ يقطعُ من المسافة بصحة العزيمة، وعُلُوِّ الهمة، وتجريد القصد، وصحة النية مع العمل القليل؛ أضعاف أضعافَ ما يقطعه الفارغ من ذلك، مع التعب الكثير والسفر الشاق، فإن العزيمة والمحبة تُذهِبُ المشقة وتُطيُب السير، والتقدم والسبق إلى الله إنما هو بالهِمَم وصدْقِ الرغبة والعزيمة، فيتقدم صاحب الهمة – مع سكونه – صاحب العمل الكثير بمراحل.